العدو الأمريكي البشوش
بقلم: مستشار التحرير ….. أحمد عزت سليم
تهيمن الولايات المتحدة على السياسة الدولية بشكل مطلق ، حيث تراقب الأزمات في كل العالم ، لأن لها مصالح في كل القارات ، وتعتبر الوحيدة القادرة على التحرك في العالم وفى كافة الأرجاء المعمورة والخربة ودون استثناء ، وهي التي تحدد اختيارات وسير العالم من خلال هيمنتها على هيئة الأمم المتحدة ، ومجموعة الدول السبع الأكثر تصنيعا ، وصندوق النقد الدولي ، والمنظمة العالمية للتجارة ، ومنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي ، ومنظمة حلف شمال الأطلسي ، إلخ..
وبما أن هيمنة إمبراطورية معينة في عالمنا المعاصر ، لم تعد تقاس بإمكانياتها العسكرية والدبلوماسية فقط، فقد حرصت الولايات المتحدة على أن تكون الأكثر تفوقا في المجال العلمي و بالتالي تمتص من العالم أجمع عشرات الآلاف من الأدمغة من طلبة وباحثين وحاملي الشهادات ، الذين يحلون كل سنة بجامعاتها ومختبراتها ومقاولاتها ، مما سمح لها خلال السنوات الأخيرة بالحصول على 19 جائزة نوبل من أصل 26 في الفيزياء ، و17 من أصل 24 في الطب و 13 من أصل 22 في الكيمياء.
وتمارس الولايات المتحدة هيمنة مطلقة على الشبكات الاقتصادية ، فلقد بلغ إنتاجها الداخلي الخام سنة 1999 : (8683,4 مليار دولار ) يعادل 6 مرات إنتاج فرنسا (1346,6 مليار دولار ) ويظل الدولار العملة الأولى، حيث تمر عبرها 83 % من مبادلات العملة الصعبة. وتمثل بورصة نيويورك مقياس التقلبات المالية العالمية وأي تعثر لها يحدث الفزع في العالم أما القوة الضاربة لصناديق المعاش الأمريكية ـ التي تمثل غولا مهيمنا على الأسواق المالية ـ فتخيف كل الفاعلين في الميدان الاقتصادي العالمي .
وتعتبر أمريكا أول قوة في ميدان المعلومات إنها تتحكم في الاختراعات التكنولوجية الجديدة، وفي الصناعات الرقمية ( المادية واللامادية ) من كل نوع .. الامتدادات والإسقاطات إنها بلاد المواقع ، والطرق السريعة للمعلومات و ” الاقتصاد الجديد ” والعمالقة ميكروسوفت ، إ.ب.م ، إنتل وأبطال الإنترنت ياهو ـ أمازون ـ أمريكا أونلاين .
فلماذا لا تثير هذه الهيمنة العسكرية والدبلوماسية والتكنولوجية المطلقة ، مزيدا من النقد أو المقاومة ؟ لأن أمريكا تمارس علاوة على ذلك الاستعمار الفكرى من هيمنة ثقافية وأيديولوجية تتوفر على نخب ومثقفين كبار يُجمع الكل على احترامهم ، وعلى أعداد هائلة من المبدعين في مختلف المجالات الفنية الذين يبهرون وعن جدارة في كل مكان وتمتلك كذلك التحكم في الرمزية الذي تمكنها من ” الهيمنة الآسرة “ .
في كثير من المجالات تمكنت الولايات المتحدة من التحكم في المصطلحات والمفاهيم والمعاني ، إنها تضطر الآخرين للتعبير عن المشاكل التي تحدثها باللغة التي تقترحها هي ، وتنتج الرموز التي تمكن من فك الألغاز التي تفرضها وتتوفر لهذا الغرض على كم هائل من معاهد البحث ومن صناديق الأفكار think tanks ( دبابات الفكر( التي تشغل الآلاف من الخبراء والمحللين ، الذين ينتجون معلومات حول قضايا قانونية و اجتماعية و اقتصادية في اتجاه يخدم أطروحات الليبرالية الجديدة ، و العولمة وأوساط الأعمال ، ويتم نشر وإشهار أعمالهم التي تحظى بدعم مالي هائل ، على امتداد العالم.
ومصانع وصناديق الإقناع هذه مستعدة لتحمل التكاليف الباهظة ، فتستدعي لندواتها ومؤتمراتها ، الصحفيين والأساتذة والموظفين والمسيرين الذين تمتلىء جيوبهم وحساباتهم البنكية بالدولارات الأمريكية وهم يحملون ما تنتجه من أفكار إلى العالم أجمع .
وهكذا وباعتمادها على سلطة الإعلام والتكنولوجيا تقيم الولايات المتحدة ، مع التواطؤ المستسلم للخاضعين ، ما يمكن تسميته بالقهر اللطيف أو الاستبداد اللذيذ وخاصة عندما يضاف إلى هذه السلطة التحكم في الصناعات الثقافية والهيمنة على مخيالنا ـ وعلى سبيل المثال تنشر صور الشذوذ والعرى والخيانة فى الأفلام الأمريكية المصدرة إلى العالم الفقير فى حين قلب المجتمع الأمريكى أصوليا يرفض ذلك تماما بل ويحاصر الشواذ ويرفض التعامل معهم ، وذلك لتسييد هذا النموذج فى هذه المجتمعات ، وكما في تسييد مسلسل مسلسل الجرئ والجميلة والذى دعم تسييد التجاوز زنى المحارم ولنشرها في المجتمعات العربية خاصة .
ومن خلال هذه النماذج يتم تسيد الفساد وانعدام الإخلاق وإحتلال أحلام جموع غفيرة من أبناء الدول النامية والمتخلفة بالأبطال الذين يصنعهم الإعلام الأمريكى والغربى فبينما لا تشتري إلا 1 % من الأفلام الأجنبية ، فإنها تغرق العالم بإنتاج هوليود من سينما وفيديو وغيرها ، هذا دون الحديث عن ما تنتجه من نماذج في مجال الغناء واللباس والعمران أو الأكل .
ويرافق هذا كله خطاب جذاب يتحدث عن حرية الاختيار واستقلالية المستهلك ، وحضور جنوني للإعلان ( تخصص في الولايات المتحدة 200 مليار دولار للإعلان في السنة ) الذي يشمل الرموز والمستهلكات المادية ، ولقد وصل فن التجارة إلى درجة من الكفاءة ، أصبح يطمح معها إلى تسويق ليس نوع معين أو علامة معينة ، ولكن هوية ، وليس علامة اجتماعية معينة ولكن شخصية ، حسب مبدأ ربط الشخصية بما تملك .
ولقد أصبح من الملح تذكر ما أنذر به ألدو هوكسلي Aldous Huxley سنة 1931 حين قال : ـــ ” في مرحلة التكنولوجيا المتقدمة ، إن الذي سيشكل الخطر الأكبر على الأفكار والثقافة والعقول ، لن يأتي من خصم يثير الفزع والكراهية بقدر ما ستأتي من عدو بشوش ” .
موضوعات تهمك:
الهيمنة الأمريكية مازالت حقيقة مستمرة