الانفصام في الحياة السياسية العربية
- قبول فقدان الجزء تلو الآخر من الوطن العربي أصبح سلوكا ملازما للشخصية السياسية الحاكمة بأرض العرب!
- ما زال مندوبو ترامب ووفوده محل ترحيب من قبل الكثير من قادة العرب وأنظمة حكمهم!
- هناك انفصام في الشخصية يتعايش فيها جبروت وتسلط وتهديدات وعنتريات في الداخل، مع سلوك ضعيف ذليل مستسلم في الخارج.
بقلم: علي محمد فخرو
كنا، منذ فترة، نصف المشهد السياسي العربي، خصوصا بعد حراكات وثورات الربيع العربي المغدور، بأنه مشهد سيريالي. في ذلك المشهد تختلط الصور وتمتزج الظلال لتكون لوحات سياسية غير واضحة أو مرتبة، وبالتالي غير مفهومة.
وكما تدل الحياة السيريالية التي يعيشها بعض الأفراد على تشوش في الفكر واهتزاز في توازن الشخصية، فإن الأمر نفسه ينطبق على المجتمعات والدول التي تسمح الظروف بأن تقلب الأحداث حياتها إلى صور سيريالية متنافرة.
لكن يظهر أن ذلك المرض السلوكي والفكري قد تحول تدريجيا، لدى بعض أنظمة الحكم العربية، إلى مرض نفسي وعقلي خطير مدمر للذات، يتمثل في انفصام شخصية تلك الأنظمة وتحويلها إلى شخصيتين متناقضتين قادرتين، بتبريرات نفعية، على التعايش بانسجام وتعاضد.
فقد كانت شخصية غالبية أنظمة الحكم العربية، منذ بضعة عقود، تتعايش فيها المشاعر والالتزامات والمصالح الوطنية المحلية مع المشاعر والالتزامات والمصالح القومية المشتركة الكبرى.
وحتى الأقلية الصغيرة من أنظمة الحكم العربية، التي لم يتوفر في شخصيتها ومسلكيتها ذلك التوازن، منعها الخوف أحيانا، أو الحد الأدنى من الخجل أحيانا أخر، من مضاددة مشاعر شعوبها الوطنية والقومية العفوية، المتلازمة بصورة طبيعية أخوية.
كما منعها من الشطط في حماقاتها الأنانية، أو ممارسة الدونية المذلة أمام قوى الخارج الاستعمارية المعادية لهذا الجزء من الأمة العربية أو ذاك.
مناسبة الدخول في تلك الملاحظات الموجعة للقلب، ردود الأفعال العربية تجاه القرارات النرجسية العدائية الفضائحية، المغموسة في هوس ديني مفتعل صهيوني، للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بتحريض من صهره الصهيوني كوشنر، تجاه القدس العربية منذ بضعة شهور، وتجاه الجولان العربي منذ بضعة أيام.
كان المنتظر، كحد أدنى، أن يصدر قرار عربي موحد، باسم الجامعة العربية من جهة، ومن خلال كل وزارة خارجية عربية من جهة أخرى، يعتبر القرارات الرئاسية الأمريكية الأخيرة قرارات حرب عدوانية على كل الأمة (وليس فقط خاطئة أو مخالفة للشرعية الدولية، كما تلاعب بكلماتها البعض).
وأنه ستكون لها انعكاسات على كل المصالح والعلاقات الأمريكية في كل الأرض العربية. لنذكر هنا بأن عرابي المافيا من السراق الذين يوزعون ما لا يملكون لا يخافون إلا من المواقف الرجولية الندية الشجاعة لمن يواجهونهم بشرف.
كان المنتظر، كأول رد فعل، دعوة سوريا للعودة إلى الجامعة العربية، كتأكيد قومي على أن سوريا هي جزء من وطن عربي واحد، وأنها لن تترك لوحدها لتجابه صلف نظام الحكم الأمريكي. كان التعلل بضرورة الإجماع لإرسال الدعوة تعللا غير مقبول، وغير منطقي تحت ظروف هذه الهجمة العدوانية الجديدة على الوطن العربي.
دعنا نذكر هنا بأن سوريا لا تتمثل فقط في نظام حكم، لدى بعض أنظمة الحكم العربية مشاكل معه، مثلما لديه هو الآخر مشاكل معها. سوريا هي قطعة وجودية من الوطن العربي، فهى شعب عربي أثبت عبر التاريخ، وفي العصر الحديث على الأخص، أنه من أكثر شعوب الأمة العربية وفاء لالتزاماته القومية.
ومن أكثر شعوبها كرما واحتضانا وتضحية، من أجل أي من المنكوبين والمشردين واللاجئين والمضطهدين العرب. لقد وقفت سوريا، شعبا وحكومة، في كل حرب ومعركة خاضتها أقطار من الأمة العربية ضد أعداء العرب الكثيرين.
لقد خسرت الجولان، كأرض محتلة من قبل العدو الصهيوني، جراء وقوفها المشرف مع شقيقتها مصر إبان معركتها العادلة ضد الكيان الصهيوني، عندما وقف الكثيرون يتفرجون.
فهل هكذا يجازى الشعب العربي السوري الشقيق، المبهر في عطائه وتاريخه وتضحياته الهائلة، وهو يخوض حربه الوجودية مع عتاة الإجرام الجهادي الإسلامي المزعوم في الداخل، وضد التكالب الخارجي، الذي تقوده أمريكا والصهيونية، من أجل تفتيت أرضه وتدمير كل مكوناته الحضارية والمعيشية؟
من الواضح جدا أن قوى الشر الداخلية والخارجية ترمي لجعل الشعب العربي في سوريا يكفر بالعروبة وبارتباطاته القومية وبأخوة الإسلام، تماما كما حاولت وتحاول تلك القوى فعل الأمر نفسه حاليا بالنسبة للشعوب العربية في فلسطين والعراق وليبيا واليمن ومصر.
وسيأتي الدور على الآخرين الحالمين المعتقدين ببلادة متناهية بأنهم سيكونون في مأمن من مؤامرات الداخل والخارج المماثلة. ويظهر أن قبول فقدان الجزء تلو الآخر من الوطن العربي للغير أصبح سلوكا ملازما للشخصية السياسية الحاكمة في بعض أرض العرب.
أما بالنسبة لأمريكا فقد كنا نأمل إجراء مراجعة شاملة جادة لكل علاقات العرب السياسية والاقتصادية والأمنية والشخصية مع نظام حكم حالي، لم يبق ابتزازًا إلا ومارسه، ولم يبق احتقارًا للعرب إلا وأعلنه، ولم تبق شرعية دولية إلا وداس عليها، ولم تبق اتفاقات ومعاهدات عربية معه إلا وألقى بها في سلة المهملات.
ومع ذلك فما زال مندوبوه ومازالت وفوده محل ترحيب من قبل الكثير من قادة العرب وأنظمة حكمهم. نعم هناك انفصام في الشخصية يتعايش فيها جبروت وتسلط وتهديدات وعنتريات في الداخل، مع سلوك ضعيف ذليل مستسلم في الخارج. لك الله يا شعب سوريا الرائع المبهر إلى أن تتعافي تلك الشخصية العربية من انفصامها المأساوي.
* د. علي محمد فخرو كاتب بحريني
المصدر: القدس العربي
موضوعات تهمك:
السلطويات العربية حين تفرض الانتقام فولكلورا شعبيا
عذراً التعليقات مغلقة