الاقتصاد السياسي للكوارث في العراق
- «عبّارة» الموت هي مثال مصغّر عن «عبّارة العراق»، والقبض على الجاني الصغير، ليس إلا تعمية على الجناة الكبار.
- تكشف كارثة غرق العبارة أن مآسي الموصل (والعراق) مستمرة والفارق يرتبط بتغيّر من يسيطر على شؤون الحياة والموت.
- حادث العبّارة تمثل الوضع العام العراقي والمسؤولين عنه بمقدّمة الصورة أو أولئك الذين يقرّرون مصائر العراق داخل وخارج حدوده.
* * *
مرّ أهل محافظة الموصل العراقية، خلال السنوات القليلة الماضية، بما يصعب على أحد تحمّله، بدءاً من انسحاب فرق الجيش العراقي المكلفة بحمايتهم، وسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» عليهم الذي قام بعمليات تصفية للمئات وربما الآلاف، ثم بحرب ضارية شارك فيها «التحالف الدولي» والجيش العراقي وميليشيات «الحشد الشعبي» ودفنت عشرات الآلاف منهم تحت أنقاض الأبنية المهدمة.
وتكشف كارثة غرق العبارة أول أمس أن مسلسل مآسي المدينة والمحافظة (والعراق) مستمر والفارق الوحيد يرتبط بتغيّر من يسيطر على شؤون الحياة والموت.
فالمئات الذين كانوا ذاهبين للاحتفال بعيد النوروز وعيد الأم تمّ التعامل معهم بأشكال جديدة من الإجرام تختلف عن التطرّف الجهادي والحصار الدولي والظلم الطائفيّ والتواطؤ المؤسساتي، وتشارك هذه المرة الفساد مع الإهمال ليحصد أكثر من مئة ضحيّة أغلبهم أطفال ونساء فيما لا يزال العشرات مفقودين ولم تنتشل جثثهم بعد.
وكان موقفاً معبّراً أن يهاجم المحتجّون المسؤولين الذين حضروا للتصوير في التلفزيونات باعتبارهم مشغولين حقا بآلام مواطنيهم، وأسفرت المناورة المخجلة عن دهس المحافظ نوفل الكاعوب لاثنين من أقارب الغرقى ليكتمل بذلك مشهد العار الذي أحاط بالكارثة والمسؤولين.
إعلان القبض على صاحب العبّارة، أو فرار المحافظ وإحالته إلى التحقيق قد يخفّف من بعض الاحتقان الذي يحيط بالحدث لكنّ في الحقيقة لا يقدّم سوى جزء من التراجيديا الكبرى التي تظلّل العراق مما يجعل حادث العبّارة (رغم فداحته) مثالا مصغّرا عن الوضع للوضع العام العراقي والمسؤولين عنه، سواء الموجودين منهم في مقدّمة الصورة، أو أولئك الذين يدبّرون ويقرّرون مصائر العراق داخل وخارج الحدود.
حسب المعلومات الأوّلية، وتصريحات بعض المسؤولين، ومنهم جمال الكربولي، رئيس حزب «الحل» فإن المنشأة السياحية التي تدير العبارة تابعة للجنة اقتصادية لأحد الفصائل المسلحة «التي تدعي انتماءها للحشد الشعبي»، وهو ما يعني، بصريح العبارة، أن الجهاز العسكريّ الذي أنشأته فتوى المرجع الشيعي علي السيستاني لمقاومة تنظيم «الدولة»، ويفترض بالتالي أن يجري حلّه بعد انتهاء مهمته، تحوّل إلى جهاز يدير المواقع الاقتصادية، بما يعني أن الغلبة العسكرية أنتجت واقعاً جديداً يستخدم لإنتاج الثروة.
وربط هذا الواقع المستجد بخيوط الواقع السابقة عليه ليست صعبة أبداً وهي تفسّر عمليّا «الاقتصاد السياسي» للكوارث في العراق، والقائم على استخدام الأيديولوجيا الطائفيّة للتغلّب العسكري والسياسي وتحويله إلى «غنيمة» يكون فيها المواطنون (أو الرعايا) أسرى لهذه الآلة المفترضة الكبرى لـ«الدولة العراقية» الجديدة التي خرجت من رحم تواطؤ الاحتلال الأمريكي مع السيطرة الإيرانية.
يتجرأ بعض السياسيين والمحللين العراقيين أحيانا على تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية كاشفين عن «الدولة السرّية» التي تحكم العراق، وهي في منظومتها العامّة، لا تخرج عما ذكر!
وبسبب منشئها وطبيعتها فهي لا تستطيع إلا أن تتغذى على نهب المال العام والفساد والتواطؤ مع المحتلين بشكل يمنعها من العمل حقيقة لصالح العراقيين، فيما تتفانى على خدمة المحتلّ الأجنبي وتنفيذ أجندته.
«عبّارة» الموت العراقية، بهذا المعنى، هي مثال مصغّر عن «عبّارة العراق»، والقبض على الجاني الصغير، ليس إلا تعمية على الجناة الكبار.
المصدر: القدس العربي – لندن
موضوعات قد تهمك:
عذراً التعليقات مغلقة