الأديب المغربي “محمد بنجدي”بين”أحلام البوح ” وفانتازيا اللذّة الإيروسيّة .
قراءة : د. أحلام غانم
مدخل العشق الأزرق مِنْ قَبيلِ الصُّدَفَةِ الغريبة أن أحمل ذات الاسم “أحلام ” لبطلة رواية”أحلام البوح ” للأديب المغربي”محمد بنجدي”،لكنْ ليس من الغريب أن يكون لكُلّ رواية مدخل ،و مدخلنا لهذه الرواية المليئة بالفراغات الغامضة السؤال . والسؤال هو مفتاح العلم وفانوس الدهشة والجذب، والسؤال هنا ليس فارساً أرعناً، وفروسية مزيفة ، بل مدخل التأمل والأسئلة المحيرة التي يعبِّر ارتباكها عن قلقٍ إنساني حيالَ ولادة الكلمات عندما تدخل الأحلام من نوافذ مملكة العشق الأزرق إلى ملكوت الجسد .. لنلمح ما وراء الصُّدَفِ دون انتظار ويتأكد لنا قول محمود درويش :”إن أجمل ما في الصُّدَفِ أنَّها خاليةٌ من الانتظار”. هل اللّغةُ الإيروتيكيّةُ هي لغةٌ مستحدَثةٌ ؟و هل هي لغةٌ هدّامةٌ،أم بنّاءةٌ ؟هل يمكن اعتبارها نوعاً من الفانتازيا الفنّية؟ كائنات الفايسبوك هذه الأسئلة تستوحي التاريخ لقراءة الواقع المُرّ،و تستدعي قدراً كبيرا من استدراج مفاتيح القراءة والتأويل ، ليس لأنها عتبات للكشف ،ولاستنطاق الواتس آب ، وكائنات الفايسبوك، واستنشاق رائحة ربيع الفراش المَقْصيّ ،و خرير الماء المَنْسيّ ، بقدر ما هي باعثةٌ لنا أيضاً على الاعتراف . الثّقافة العتيقة اللّغةُ الإيروتيكيّةُ هي جزءٌ مِن الثّقافةِ العتيقةِ، والّتي تنطوي على مُجملِ الفكر بشرائعِهِ وعاداتِهِ وتراثِهِ المكتوبِ والشّفهيِّ والمُصوَّر، والتي تناولَها المفكّرونَ والمبدعونَ شرقًا وغربًا حتى قال (جورج باتاي) : “الإيروسيّة هي تجلّي الحياة حتّى في الموت”. إلهُ الحُبِّ والرّغبةِ وآيروس في الميثولوجيا الإغريقيّةِ هو إلهُ الحُبِّ والرّغبةِ الإباحيّةِ والجنس والخصوبة والسّعادة، وكانَ ملازمًا لأفروديت أمّه، وراصدًا لتجلّياتِ الجنسِ عبْرَ الحضاراتِ البشريّةِ. مادام التساؤل يدين الإنسان ،لا بد من القول ،اللغة بشكل عام إذا لم تتحول إلى فاعلية فهي هدّامةٌ وقاتلةٌ وخطيرةٌ.. ومع ذلك نحن غير منفصلين عنها وعن تراكماتها الإيتروكية، و الكمال في اللغة هو غاية مستحيلة وصعبة المنال . الرقابة الاجتماعية تسبقنا الإشارة هنا قائلة، المشكلة عندنا هي أن الرقابة الاجتماعية للغة قاتلة..و مع هذا ، هناك من يقرُّ :”إنَّ اسْتِعادةَ إنسانيَّةِ الإنسانِ ، من زِحَامِ التَّشكيلاتِ اللغويَّةِ وَالمجازيَّةِ ، والتَّركيزِ على ما هو جسديٌّ ومعيشٌ في التَّجربةِ الإنسانيَّةِ ،في طليعَةِ اشْتِغَالاتِ الشِّعريَّةِ الرَّاهِنَةِ ، وقدْ تَعَالَقَ تحرُّرُ الإنسانيُّ بِتَحرُّرِ الشِّعريِّ من شَتَّى المفاهيمِ وَالمحدَّداتِ الشِّعريَّةِ ، في خَطَابٍ شِعريٍّ حُرٍّ تتجسَّدُ فيِ حُريَّةُ الذَّاتِ الإنسانيَّةِ” . الجوع العاطفي الأديب “محمد بنجدي” في أحلام البوح ، حلّاجيّ المعنى والخط واللون ،حالمٌ فوقَ حريرِ المعنى، يسافرُ عبر الأثير الفايسبوكي ،يسردُ بعبثيةٍ واضحة ،ويخترق عيون الدّياميس مندفعاً في لسان الجوع العاطفي نحو أيقونتهِ الإيروسيِّة المتوهّجة بنار الممنوع ،متخلياً عن التابو الجسدي ( المحرّم ) ، وفاتحاً فضاء روايته على تشكل صوري مفاده الجسد بفضائه الصريح ، فيفرط في استخدام الكلمات التي تشعل شموع الجسد الضائعة، ويوجه للقارئ “صدمات غاليلية ، حيوانية داروينية ، نفسية فرويدية وفايسبوكية ماركية ، الصدمات تَلْوَ الصدمات”، ويغرق المتلقي في تفاصيل الجسد أو يعمد الى الاستعمال غير اللائق لها صانعاً منها قيثارات ودلالات شبقية للأحلام المسافرة منه وإليه عبر مركبات العشق المجنون، كما يرى رولان بارت في ” لذة النص” : (أن الكلمة تكون شبقية بشرطين متعارضين ، هما ؛ التكرار المفرط و الحضور غير اللائق ). لسان الدفاع /الجواب من الرّواية: ” صدقيني يا أحلام لا رغبةَ لي في الغواية ولا أشتهي اقتناص لحظة شيطانية عابرة .. “. ص_8 ” هي أنتِ و الأنا واللحن الجميل ،في هذا الأفق البعيد تنسلخ الروح عن التراب ، تسافر في اللامرئي تاركةً ضجيج السراب يصرخ على أرصفة الضباب، الذات المقموعة والذات المحرومة تبحثان عن حقيقتهما وسط اللامَلموس..” ص-9 خيطٍ غير مرئيّ ” على هامشِ الليل المَنسيّ ،نورُ قنديلٍ بلوريّ وشعاعُ خيطٍ غير مرئيّ، يخترقُ عيونَ الدَّياميس مُتلاشياً صمتاً ناطقاً بين أشجار الفايسبوك وأنهار الواتس آب ، المسانجر والسنديان غزالة وظبي يقفان قرب بحيرة الأثير ،النِّتُ والمملكة الزرقاء يَحْضُنان عاشقين مقموعين من ظُلم العشيرة وغمّ القبيلة .”ص-7 المتاهة الإيروسيّة يأسرك ” محمد بنجدي” شاعراً مجنوناً ، مفكّراً فانتازياً وأديباً مبدعاً، حيثُ يبدو نصُّهُ حرا طليقاً عبر الأثير الفايسبوكي ويقوم على ساردٍ وَرَاويةٍ متعددة الأصوات، نوتة تسافر بنا عبر مقامات النور الأبيض وحيثُ تتعانقُ فيها شِعريَّةُ النَّثرِ الفَنيِّ، ويستولي على كيانِكَ البطل الضمني حين تتعرّف إلى متاهته الإيروسيّة بعد أن تكون تعرّفت إلى نتاجه المتشبِّعِ بلغةِ الصوفيين . ويعترف لنا إنه مجنونٌ متمرّد ٌ: “أعترف أني مجنونٌ متمرّدٌ وعنيدٌ ،أرفض تسطيح الأشياء والتلاعب الأيدلوجي والسيميائي بالكلمات ،لستُ أنا من صاغ العالم على هذه الشاكلة المتناقضة ، لست أنا من أضاع المفتاح في جوف الكنيسة ، لست أنا من سرق المسجد وأذَّن خارج صوت بلال ، أين هو بلال ..؟”ص-4 أسرار الفضاء الأزرق يرى ” دريدا أن النص ليس ساحة تباينات ، ومجال للتوتر والتعارض وحيز للتبعثر والتشتت ،إذَن ما الذي يجعل “بنجدي” أن يعزف على تقاسيم الليل والنهار ، ويقدّم باقة ألحان فانتازية من أسرار الفضاء الأزرق ،و يجنح إلى نثر عشرات القصائد المثيرة للغرائز وهي بالعمق وصفات وجودية محرضة للطاقة الجنسية تستهدف إحياء الأيروسية ؟ هل هي المغامرة بإطلاق ألسنة المسكوت عنه لفترة طويلة بعد أن تم تبادلها سراً ، والحديث عنها همساً ..؟ اللحظات الإيروسية التي تفتح لنا الأعماق تُهَمّش وتُحتَقر أو يلفها الفراغ الفكر ي .. و سؤال الأسئلة في هذا المنحى الذي يطرحه القارئ لأحلام البوح باستمرار من هو “محمد بنجدي” الذي يفتح الباب واسعاً أمام التفكير ،ويريد في بوحه ملء هذا الفراغ كي يتم التعرف على حقيقة كياننا ..؟ وبدون تردد يجيبنا السارد قائلاً : أنا لا أملك الأسلحة الفتّاكة التي أقاوم بها خوفي ووحدتي إلا هذه المملكة الزرقاء التي تسمى الفايسبوك ، المسنجر ،.. الواتس آب.. ويواصل القول : ” أنا ابنُ الفطرة وابنُ الماء ،أنا الإنسان والأنسنة ورسالة السماء ،رُشْديٌّ مُعْتَزِليٌّ..حَلَّاجيٌّ عِرْفَانيٌّ..أرسطيٌّ ديكارتيٌّ غانديٌّ أنا .. منديلا أنا ..؟لستُ أنا ..بل أنا وأنتِ وسرداب جَدِّي..أنتظره لتأويل الدين ، الجنس والسلطة بعيون ثاقبة غير ناقمة “. ص- 9 طاقة متوهّجة إنّ انبناء الحلم /السَّرْد على لغة البوح البسيط لا يضيف إليها إيحائية جديدة بقدر ما يضيف إليها طاقة متوهّجة تعمّق سيرورتها في استيعاب ظواهر اجتماعية يتكاثر في دواخلها الفطريات والأمراض والجهل . .لعلها الرغبة في الخروج من عالم الزيف والقبْح بحثا عن العالم الذي ينتج الحرّيّة. لابد من التوضيح حتى نفهم نظرة “بنجدي ” إلى هذه الأحلام الإيروسية الوجودية ، لابد من التوضيح إلى أن الأيروسية ليست عنده مرادفاً لا نفلات الأهواء في غياب الماوراء ، ربما هي دعوة للعودة إلى الجسد والمثال الديونيزيّ الذي قال عنه نيتشه :”إنه تأكيد دينيّ للحياة التي لا نقتطِع منها شيئاً ولا نتنكّر فيها لأي شيء” . وعليه ،لا يمتلك الكاتب معاني الخوف والانتشاء والارتواء في التساؤل إذ يقول بلسان بطلته أحلام :” من قال أن الصهيل حرام ؟ من قال أن الهديل حرام ؟ ويأتي الجواب صريحا : لن أخجل من انتشائي وارتوائي معك ”
الذات المسروقة إذ يقارب السارد حلماً/عالماً ضاجاً بالصراعات الداخلية ، و ينزع نحو الاكتمال ويبحث عن الذات المسروقة في كل الأسماء، أراه يرسم لنا بالكلمات الكثير من السّمات العالقة بسرديات الواقع والسير الذاتية للشخصيات التي تصلّي في معابد الحب ، والتي لا تعنيه من تكون ،حيث يكشف عن انفعالاتها ، وعن بنية المفارقة في صراعاتها في تيه وجحيم هذا العالم . في هذا السياق نفسه يقول :” يا أحلام ..كوني كل النساء الحرائر ، كوني الماء وظل السماء ،أنت مدينة الحكماء ، العقلاء،العرفاء و الفضلاء ،لكِ القلم المَنسيّ تحت أنقاض الهياكل والجماجم ، لك الدواة المخفية في حقيبة عَمِّي الحكيم .”ص-11 مفتاح الحب الضائع يوحي ويصرح لنا عبر أحلام البوح في عصر التفجر المعرفي والخراب الروحي أن العالم ليس بحاجة إلى جيوش جرارة من الشيوخ أو المتعاطين بالدين والفقه ،والمفاتيح الكيبوردية بقدر حاجته إلى مفتاح الحب الضائع. ملكة أيروسية ينبثق الحلم من قلق الفكر في تناقضه مع الواقع المسلوب و وتبدو “أحلام ” كملكة أيروسية تطرح علينا سؤال المعنى والاستمرار والديمومة ،ويحلو لنا الكشف في بوحه : “أخاف كشف الحقيقة لأبنائي ، إخوتك باعوا مفتاحَ حيفا ،والخليل ،استغنوا عن سجاد عكا ،والقدس وأجراس المسيح ، يا مريم العذراء،وفاطمة الزهراء .” العزف الإيروسي يسعى “بنجدي”جاهداً على إذابة عزلة الكائنات القائمة في ذاتها والأجساد المنفصلة وانصهارها ببعضها بعضا في تخطٍ واضحٍ لحدودها ،ويتابع العزف الإيروسي والبوح : ” سابق ٌ أنا لعصري ، هارب من قفصي ، عاشق لك وعاشق لنهديك،أشتهي الخوخ الطازج من شفتيك ،أشتهي انحناء قوسَ قزحٍ من خصركِ ،أشتهي الأبيض والساق الزبدي”. نبرة صدق نلاحظُ ضمن هذا البوح لحظة تتكاشَفُ الذَّاتُ ، هُنَا ، في نبرةٍ حميمةٍ وخالصةِ الصِّدقِ ، ولا تسعى إلى الاتِّجَارِ الرَّخيصِ بِالثَّقافةِ الجنسيَّةِ ، أو إثارةِ بعضِ المحرومين والمكبوتين والمحبَطِين ، ولكنَّها تسعى إلى القبضِ على صورٍ إنسانيَّةٍ حقيقيَّةٍ ، ظلَّ الفنُّ سَاكتًا عنها طويلاً ، ونابذاً لهَا. رسول الماء الروحي قد نقع في المغالطات إذا رمينا ” أحلام البوح” بتهمة الإباحية، هناك فرق كبير بين أن يكون الجنس أحياناً مطية للكاتب وبين أن يكون الكاتب رسولا للماء الروحي ،ولعلّ كان “بنجدي ” يعبّر عن الحالة نفسها ودون خوف في المقطع التالي: ” يا أحلام وسيدة المقام ، لك القوافي ونبش القوافل ، لك النخل والرمل ،وسرّ المجاز ، اجعليني استعارة متمردة بين سطور الرواية ، لا تخافي عليّ الموتَ شنقاً ، لا تخافي عليّ القتل َذبحاً، كوني بلسماً للفلسفة والتاريخ ، كوني عبيراً حَلّاجياً و ماءً للمسيح ، اكتبي على سطح الحيرة عنوانا عريضا ، لا تكن عدواً للماء .” علاقات بوهيمية يدخل الكاتب في علاقات بوهيمية مع مجموعة من الشخصيات ،ويعمد في حلمه الإيروسيِّ المسلوب الى “أسلوب التوضيح والتفصيل والتصوير الجنسي المباشر”، فتظهر الرواية وكأنها تتمحور حول ثوابت إيروسية هي (الجسد وفتنة غوايته )،ويبلغ المجون حداً يصير فيها واحداً من أهم مفردات خَطَاب “أحلام البوح،” وهذا في حدّ ذاته ، يعد هروباً من ظلم القبيلة، أو مجازفة من كاتب يعيش في مجتمع تحكمه النزعة القبلية والتفاوت الطبقي و عالم تطحنه الحروب ،وتدور حوله كل مجانين الأرض. لعبة اللغة هذه الرواية لا تصنع لغة بديلةً للإيروسية، لكنها تحاول أن تقترح قراءة مضادة لما هو سائد ،إنها لعبة اللغة ،لغة الحرب ضد المفاهيم الضيقة ،تلك التي توهب شخصياتها الخسارات ، والتي تسحبهم إلى نوع من الاغتراب الوجودي ،اغتراب التطهير ،واغتراب الجسد ،والبحث عن أمكنة أخرى لممارسة نوع من التعويض ،المضاد لوهم المحو . لا يرضى أن يكون فردا في قطيع تحكمه العقول الضيقة والقوانين
ويستنكر اغتصاب الضياء ، ” قلتُ لصمتي : تباً للعقل البليد .. تباً للكبت اللعين ..أوراق صفراء وأنياب حمراء ..ذئاب تسترت بماء السماء ..حروف تأسْطرتْ واغتصاب الضياء .. خطوط الأرض خجلتْ من ترّهات الحروف الماكرة والرموز الخادعة كيف لي العيش وعنف السواد ؟ كيف لي الصلاة وجرم الخراب .” ص- 195 رحم الكلمات لا مفر للكاتب العاشق من اللجوء في لحظة الخسارة إلى حضن يرتاح إليه من خلال الدخول إلى رحم الكلمات بقصائد نثر غير مكترث بالمظاهر الخادعة والمضللة ليكسب دلالاته الفنية ، فنراه يرحل من حضن إلى آخر بعاطفة جياشة وغير خوف من الموت، وكما في قوله :” “نعم أنتِ من يكتب عنّي ..ينزع القلم مني ..يأخذني إلى عوالم النصّ والمجاز ..أنت المجازُ الساكرُ بين أناملي..رؤوس أصابعي تقدُّسُك ..تسجد للرحمن على سجّادك ..أنتِ الحَلّاجُ الذي صُلِبَ بين نهديكِ ..أنت ابن رشد الذي شُرّدَ بين شفتيكِ.” النقط السوداء لا شك أن الراهن الضاغط على كل شيء ينتظر لحظة انعطاف ،والراهن الطاحن ينتظر حكمة اللامعقول ، لهذا يعاني المبدع في ضروب المتعة والجمال من إرباك واضح ، فنراه تارة يحمل حلمه الشك والحيرة ،الدهشة والرغبة ، العقل والجنون ،وتارة أخرى يحث على الخروج من عباءة الماضي ونضع هذا المقطع برسم التاريخ “: أمام هذا البؤس المُقرف والفقر المُدْ قع تنمو الطفيليات اللِّحياتيّة مستقطبة ضَيِّقي التفكير والمقصيّين من الحياة الاجتماعية ، الاقتصادية والسياسية ،ناهيك عن النقط السوداء الموجودة في الموروث الإسلامي الذي يحتاج إلى نقد تاريخي صارم ،فزمن المجاملة ولَّى وزمن الإخفاء انتهى ،لا خيار أمامنا سوى فتح هذه الإضبارة لتجاوز حالة التأخر التاريخي كما قال المفكر عبد الله العروي .”ص-21 مشاهد سينمائية ولكن في وصفه المتخيل لأحلام البوح ، تجد نفسك أمام مشاهد سينمائية كثيرة الدلالات و التفاصيل مثيرة للغريزة سريعة الحركة .”قبلني على الأثير ..اجعلها طويلة ..عذبة ..رقيقة كزهر الربيع ..- ضعي لساني بين شفتيك .. واتركيه ينام الليل كله .” البُعْدُ الجِنْسِيّ رَكَّزتْ أحلام البوح على تحريرِ الجسدِ من آليَّاتِ القمعِ وكسَّرتْ قضبان الأسر من حوله ، وَالكَشْفِ عَنْ صَوْتِهِ السِّريِّ وَتَوَقُّدِهِ الجنسيِّ ، و بَدا هذا التَّركيزُ جزءًا من اهتمامها بِالمعيشِ و اليوميِّ والحياتيِّ والشَّخصيِّ ؛ فالبُعْدُ الجِنْسِيُّ أحدُ الأبعادِ الرَّئيسيَّةِ لِلْجسدِ ، ويقفُ وراء الكثيرِ منْ صورِ الفعلِ الإنسانيِّ عامةً . من الممكن من خلال هذا المقطع الآتي اكتشاف الروح الصوفية والفراغات المنتحرة على أعتاب هذا الصوت الصارخ بالبريّة بالنداء : ” يا نعيماء .. رأيتكِ وأحلام ملاكاً أبيض.. طُفْتُما بي وأنا ميِّت في المنام ..مقامات صوفيات ومعارج متعاليات ..رأيتكما نور الحلاج ، رأيتكما سرّاً لمريم العذراء .. رأيتكما مشكاة لفاطمة الزهراء.. النساء من حولكما حوريات نورانيات ..النجوم والأفلاك ..هل أنا مجنون يا نعيماء ..؟” ص-209 فالأحرى القول :إن القراءة الحرفية لشخصية أحلام في رواية “أحلام البوح ” هي خدعة وصمت ، غياب وحضور لشمس الأصيل ،هي مرآة يتمرأى فيها القارئ،و يتعرف من خلالها على مملكة الفراش وعلى نفسه، بمعنى من المعاني ، و تستنطقه و تسائله عن هويته ،وللوقوف على مضامين أحلام البوح ومعانيها الخفية الكامنة يكفينا هذا المقطع المشبّع بالدلالات والشجن . ” يا حراس الدين ،لسنا ملحدين ولسنا خارجين عن الدين ، متى كان الثعلب إماماً والذئب إنساناً ؟ حبيبتي ليست فاسقة وليست فاجرة ، حبيبتي مملكة الفراش .” ص- 210 ولهذا لم نتعامل مع أحلام البوح كخَطَاب محكم متجانس ،بل كفضاء رحب كالفضاء العنكبوتي ،فالنص مثل الجسد ، قد يراود القارئ عن نفسه ، فيغريه ،ويفتح شهيته للكلام ،ويحرك رغبته في معرفة المزيد وهذه هي خاصية النص الجدير بالقراءة . تظل الرواية الأيروسية المحملة بالفلسفة والمتخمة بالشِّعر عصية على القراءة والتأويل ، لأن ” فتنة الكلمة كما الفلسفة بدءاً عقل الكلمة وفتنة كبريائها . ومن الجدير ذكره أن رواية “أحلام البوح ،هي رواية الحرب على كل العقول الضيقة ، هي الذاكرة المضادة للجسد، هي البؤرة المولدة لما هو تعبيري وإيحائي ، هي تجربة انفتاح وعريّ، والعريّ هو لحظة الضياع ، بوصف الجسد هو الضحية،و حيث الذات تقطع عزلتها وتستسلم بكل كثافتها للآخر، فهي لا تصنع فراغا بديلا ، ولا تاريخاً جديداً لمن خرج منه بخسارات وتشوهات كبيرة ، لكنها تحاول أن تقترح قراءة مضادة له ،من خلال وجهات نظر مختلفة ،أو أصوات متعددة فعندما تغيب الذات في لحظة عن وعيها وتتعطل اللغة وتُختطف الأنفاس ، يبقى الصمت وحده سيد الموقف والحلم كالزئبق لا يمكن الإمساك به ويبقى البحث مستمرا عن الذات /الضحية /القاتلة أ والمقتولة ونبقى جميعا ضحايا هذه الحروب المبرمجة بلغة عنكبوتية والمحركة بأصابع شيطانية خفية وليس أمام العاقل سوى الهروب للأعلى أو الانزواء في العالم السفلي . على سبيل الختم : اعتمد “محمد بنجدي ” في روايته “أحلام البوح” تقانة التداخل الزمني ودراما النص النثري الذي يربط العين الثالثة بحركة الشخصيات ،واستغراقه في العوالم الجوانية لتلك الشخصيات ،ويكشف لنا في جوهره الحقيقي ،أن الشاعر الرائي الفيلسوف هو ضحية كل الأزمان ،و القلم الذي يفرض نفسه على المتلقي يحمل إزاء الواقع المزري والمرير شهوة الإصلاح والتغيير ،والقادر على تجاوز القرون _كما يقول ليفي ستروس ” ” الأدب القادر على تجاوز القرون هو المطعم بالتفكير والمعارف والفلسفة ”
اقرأ/ى أيضا:
الفنانة الأمريكية ” ماريا كارى ” تغنى بالسعودية 31 يناير
فيلم الإثارة والتشويق “جريمة الإيموبيليا” على مشارف العرض
عذراً التعليقات مغلقة