لماذا فشلت المظاهرات العراقية حتى الآن؟
- اختفت الأموال وتبخرت الوعود. فقرر المتظاهرون، الجمعة الماضي، العودة إلى الشارع للاحتجاج.
- لماذا لم تحقق المظاهرات والاعتصامات مطالب لا يزال المتظاهرون يطالبون بها؟
- لماذا عاد الإحساس بالظلم بين المحتجين إلى موقع الصدارة فعادت الاحتجاجات المتناثرة في عدة مدن؟
- لماذا تفشل التحركات الاجتماعية في استقطاب مختلف شرائح المجتمع ويفشل المجتمع المدني، النقابات خاصة، في الانضمام اليها؟
بقلم: هيفاء زنكنة
بعد هدوء نسبي، عاد المتظاهرون للاحتجاج بمدينة البصرة، جنوب العراق. عادوا مطالبين بذات المطالب التي دفعوا ثمنها غاليا: حياة العشرات واعتقال ناشطين واختطاف آخرين لا يعرف مصيرهم. فمنذ شهر تموز/ يوليو، في العام الماضي، والمتظاهرون يطالبون بأبسط الخدمات من الماء الصالح للشرب والكهرباء إلى توفير فرص العمل ووضع حد للفساد المتفشي، بأنواعه، في مؤسسات الدولة.
يتظاهرون في بلد هو ثالث أعلى بلد مصدر للنفط بالعالم، وتنطلق أصواتهم بغضب ومرارة ورجاء من محافظة تعتبر أم النفط في العراق. وحين تجاوز الإحساس بالظلم مداه وأستهدف المتظاهرون مراكز الأحزاب والأداة المحلية باعتبارها تجسيدا للفساد الإداري والسياسي، وكما في المرات السابقة، جوبهوا بالرصاص الحي والغاز المسيل للدموع.
اقرأ/ي أيضا: النظام العربي الإقليمي.. كنت شاهدا
في أيلول/سبتمبر، من العام الماضي، وبعد مظاهرات شهرين تحت أشعة الشمس الحارقة، هطلت على سكان البصرة، زخات من زيارات مسؤولين حكوميين وممثلي المرجعية الدينية بمدينة النجف، وهم يحملون أطنانا من الوعود لتحسين الأوضاع.
الا ان أيا منها لم يتحقق.
عاد المسؤولون إلى الاستكلاب حول المناصب وعاد ممثلو المرجعية لاعتلاء منصة خطبة الجمعة واعظين. اختفت الأموال وتبخرت الوعود. فقرر المتظاهرون، يوم الجمعة الماضي، العودة إلى الشارع للاحتجاج.
وهذه ليست المرة الأولى التي تتصاعد فيها نيران الاحتجاجات إلى حد منح الناس أملا بالتغيير ثم يخفت وهجها تدريجيا ويعود من يعود إلى داره وقد أضيفت طبقة جديدة من خيبة الأمل إلى حياته.
وشباب البصرة ليسوا الوحيدين الذين يخاطرون بحياتهم للاحتجاج على الأوضاع وتقديم قائمة مطالب، تبقى في مضمونها، واحدة. بل انهم حلقة في سلسلة مظاهرات واعتصامات لو قمنا برصدها واحدة واحدة لوجدنا إنها تجاوزت المئات، منذ غزو البلد عام 2003.
وزيارة قصيرة إلى آلة البحث «غوغل» ستقود الباحث إلى صور مذهلة لساحات وشوارع المحافظات والمدن العراقية المكتظة أحيانا بالمتظاهرين والخالية الا من العشرات في أحيان أخرى.
اقرأ/ي أيضا: لماذا يخاف المستبدون؟
احتجاجات تمتد من شمال العراق إلى جنوبه، من إقليم كردستان إلى مشارف حقول النفط الجنوبية. تدحض الصور وقائمة المظاهرات الطويلة، المتعددة، فكرة اقتصار الاحتجاجات على «إرهابيين» من محافظات تم وسمها إعلاميا ودعائيا بالإرهاب.
إذ تزين الاحتجاجات خارطة العراق بمدنه من السليمانية إلى الموصل والرمادي وبابل والناصرية والبصرة مرورا ببغداد التي شهدت امتداد روح الربيع العربي اليها عام 2011 على مدى شهور من الاعتصامات في ساحة التحرير، بقلب بغداد، فيما أطلق عليه أسم سلسلة «جمعة الغضب».
توجهت المظاهرات نحو المحتل، بشكل خاص، في فترة الاحتلال الانكلو أمريكي المباشر (2003 ـ 2011)، خاصة في مدن غرب العراق (الفلوجة والرمادي مثالا) لتنتقل بمطالبها نحو الحكومات العراقية (المنتخبة ديمقراطيا افتراضا) في السنوات التالية، في بقية المدن، لتشمل توفير الخدمات والحقوق الأساسية، من تعليم وصحة وسكن، ونال إقليم كردستان نصيبه من الاحتجاجات ومواجهتها بالعنف من قبل قوات الأمن والشرطة.
ركن المحتجون إلى الصمت، خاصة، بعد ان أصدرت المرجعية الدينية بالنجف، فتوى الجهاد ضد الدولة الإسلامية (داعش)، وباتت «داعش» أداة مقبولة محليا ودوليا، قانونيا ودينيا، لاتهام أي محتج بالإرهاب والداعشية.
الا ان اعلان الحكومة العراقية النصر على منظمة « داعش»، ومجيء حكومة جديدة أطلقت الوعود بالشفافية والقضاء على الفساد، بسخاء حاتمي، وما تلاه من تلاشي الوعود، أعاد الإحساس بالظلم بين المحتجين إلى موقع الصدارة. فعادت الاحتجاجات المتناثرة في عدة مدن.
عند مراجعة كثافة وتعدد الاحتجاجات، واستمراريتها في أرجاء البلاد على مدى طويل يقارب 16 عاما، ومع أعداد الضحايا الكبير وخطف الناشطين بالإضافة إلى قصف مدن المحتجين بالبراميل المتفجرة (في الفلوجة)، نجد أنفسنا أمام سؤال مُلح:
لماذا لم تحقق المظاهرات والاعتصامات، المطالب التي لايزال المتظاهرون يطالبون بها؟
هناك، بطبيعة الحال، مجموعة عوامل متداخلة، من بينها تسرب النفس الطائفي إلى بعض المظاهرات وتدخل المرجعية الدينية لصالح الحكومة بحجة تهدئة الحال وشعبوية الخطاب السياسي للأحزاب المسيطرة بحكم الفساد بالإضافة إلى استخدام بعبع «الإرهاب».
الا ان أحد العوامل المهمة التي غالبا ما يتم تجاهلها هو محلية الاحتجاجات أو، بأحسن الأحوال، امتدادها الجزئي المستند إلى التحشيد الطائفي والعرقي بعد التغييرات السكانية التي مررت بعد الاحتلال وافرغت مناطق كثيرة من اختلاطها التاريخي الطبيعي.
اقرأ/ي أيضا: سنوات القلق القادمة
فحركات الاحتجاج في إقليم كردستان، مثلا، لا تدفع الشباب إلى الاحتجاج في الرمادي أو كربلاء أو البصرة والعكس بالعكس، حتى حين تكون المطالب واحدة وشاملة مثل القضاء على كابوس أو إرهاب الفساد أو المطالبة بالأجور وحق العمل.
لا تطرح الحركات المحلية حلولا جذرية وطنية عامة للتغيير، وبسبب طبيعة مطالبها وكونها بلا قيادات ذات خبرة في تطوير سيرورة الاحتجاج نرى انها تصبح ضحية تلاعب الأحزاب والفساد إذ تستغل في الصراعات على المناصب، حالما تتم مساومتها لقاء تحقيق أحد المطالب حتى تتخلى وتستكين ثم تعاود الخروج إلى الشارع بعد حين، مما يجعلها بسبب هذا التذبذب عاجزة عن قلب المعادلة الموجودة وعاجزة عن كسب جمهور صامد.
الإشكالية الأخرى هي فشل هذه التحركات الاجتماعية في استقطاب شرائح المجتمع المختلفة بالإضافة إلى فشل قوى المجتمع المدني، النقابات خاصة، في الانضمام اليها، باستثناء شركة نفط الجنوب، برئاسة حسن جمعة.
فاحتجاجات خريجي هندسة النفط الشباب الذين لا تقوم شركات النفط بتعيينهم هم وعمال النفط الآخرين بل تجلب العمال والمهندسين الأجانب، لم تشهد يوما انضمام نقابة المحامين أو المعلمين أو اتحاد الكتاب والصحافيين لمساندة احتجاجهم، ولا دورا لغرف التجارة لمناهضة الفساد والابتزاز وفرض النزاهة في المجال الاقتصادي اليومي.
بينما تبين تجربة الإحتجاجات والانتفاضات الشعبية في العالم إلى ان دور المهنيين في تزعم التظاهرات تمنحها درجات من الانضباط والنضوج والحصانة من الإختراق والتلاعب.
اقرأ/ي أيضا: متى يبعد عن عروبتنا الإستبداد ويختفى!
تشير التجربة العراقية حتى الآن إلى تجميد الاحتجاجات في أماكنها بدون ان تتمكن من قطع خطوة أخرى باتجاه التجذر المجتمعي والاحساس العام بانه لم يعد هناك من حل غير العمل الجماعي، من الخريجين الشباب والعمال والطلبة والفلاحين إلى المهنيين ونقاباتهم.
والانتقال من مرحلة الاحتجاج إلى إنتفاضة للتغيير تبدأ بالعصيان المدني الشامل والاضراب العام وكل النشاطات النقابية المحلية والعامة المبرهنة على التحرر الفعلي من الطائفية والعرقية، المستندة على فكر يخرج من الاطار المحلي إلى العام، ومن المصلحة الفردية إلى الوطنية لا بمفهومها الدعائي الفارغ الذي يتشدق به الساسة الحاليون بل المفهوم الجامع الذي تربينا عليه يوم لم نكن نُعرف أنفسنا بالطائفة أو الدين بل بكوننا عراقيين.
* د. هيفاء زنكنة كاتبة من العراق
المصدر: القدس العربي – لندن
عذراً التعليقات مغلقة