ذاكرة المكان و سيرورة الاستدلال في “مذكرات طبيب أسنان”
للأديب الأردني د. رفعات الزغول
قراءة: د.أحلام غانم
مدخل يصف أوغسطين الذاكرة بأنها قصرٌ واسعٌ تودع فيه الأشياء، فتستجمعها لتثيرها عندما تستدعي الحاجة إلى ذلك؛ فالتذكير يكون بإرادة الذات وقوتها وليس خارجاً عنها، و يُحيلنا هذا الوصف إلى أن الماضي لا بد من توحيده بالذاكرة والمستقبل بالتوقع ،و عليه نجد أنفسنا أمام الكثير من تناسل الأسئلة. كيف نرى العلاقة بين الذاكرة /الزمن والمكان ؟هل هي علاقة ضرورية أم علاقة اعتباطية ؟ إنَّ العلاقة بين المكان والزمن، هي العلاقة التي أرَّقت الكثير من الأقلام … بين الحاضر الماثل أمام أعيننا، والماضي الذي يتكوّر في رأسنا، ويبقى مجسداً في ذاكرة الوجود. سيرورة الاستدلال و للمكانة المتميزة التي حظي المكان بها في السَّرد القصصي وبنائه، قد أفرد (غاستون باشلار ) فيى (جماليات المكان ) بُعداً فلسفياً مهماً ،إذ يذهب إلى أن العمل الأدبي يفقد خصوصيته ،وأصالته إذا فقد عنصر المكان . وعليه، نسعى في قراءة هذه المذكرات إلى استثمار العلاقة التداولية بين الذاكرة والمكان ،لإبراز دور المكان في إنتاج سيرورة الاستدلال من خلال استحضار الكاتب الدكتور “رفعات راجي الزغول ” في مذكراته /سيرته الذاتية المعنونة ب” مذكرات طبيب أسنان” والمطبوعة بدعم من أمانة عمان الكبرى ، والتي ضمت بين دفتيها سبعة وثلاثين قصة . الوعي الإيجابي تباينت قصص د. “الزغول ” في موضوعاتها ودوافع انبثاقها مع اختلاف الزمكانية وتوحد الموقف الإنساني والوعي الإيجابي باستثمار مجموعة من “الأمكنة” كمقدمات تنطلق منها الذاكرة الفردية لتحويل هذه الذاكرة إلى فنّ (البعد الجمالي) ، وإنتاج رؤية للمستقبل (البعد المعرفي)
اقرأ/ى ايضا: بيان للرأي العام من قبل أحرار جبل العرب “الدروز”
ويوضح ذلك من خلال تنوع العناوين :” العظماء والكلاب، سعيد، ذكريات ،أجيال ،أبناء ،شهادات الزور ،احترام الشارع،الإدمان ، ضيف ثقيل الظل ،طمع ،عبيط ،إهمال ..إلخ”. بُنية العنوان ” مذكرات طبيب أسنان ” بُنية عميقة تأخذ بنا إلى عمارة النص ومضمونه الإجمالي ، لما فيه من وظائف لغوية ومرجعية وتأثيرية و أيقونية باعتباره مجموعة من الدلائل اللسانية كما عند جيرار جنيت وغيره.
ويؤشر العنوان الذي اختاره د.(الزغول ) لسيرته الذاتية ” مذكرات طبيب أسنان ” على العودة إلى الماضي، من أجل استحضار أحداث وأشخاص وأماكن…كان لها الأثر في حياة الكاتب، ولكنه يُعلن في الآن نفسه عن نية الكاتب في إخراج هذه العناصر من دائرة النسيان إلى دائرة الحضور، و يوضح هذه الحقيقة المهمة من خلال الإهداء :” إلى كل المعذبين في الأرض/ إلى المتهمين بحمل السلم بالعرض/ورافضي العيش بين الحفر/ إلى روح أخي المرحوم بإذن الله /الأستاذ محمد راجي زغول.”ص-3 بناء الهوية إنّ الكاتب يستجيب لرغبة ذاتية في بناء وإعلان هويته العروبية من خلال السرد، ولإعادة الاعتبار لهذه الذاكرة التي “تستحق أن تروى” بعبارة جورج ماي..حيث نقرأ مقتبس هذه الرغبة :”بغداد عظيمة حتى في الحصار ، بغداد شامخة رغم تطاول الأقزام ، بغداد كريمة رغم شحّ الموارد في أيام الحصار، تلك هي بغداد التي شكلت من يومياتي جزءاً مهماً لأنها علمتني الكثير ، كما دجلة والفرات في العراق .”-ص9 الابتعاد عن التكثيف والرمز رغم أنه حاملٌ لمختلف الثقافات ،ورغم التنقل من مكان إلى آخر لم يترك السّارد “الزغول “للمتلقي فجوات بينه وبين النص، ولم يستطع خرق تلك الجدران القبلية العازلة بينه وبين الحداثة ، لذلك نلاحظ ،ابتعاده عن تكثيف العبارة وانتقاء اللفظة الرامزة القادرة على الإشارة من خلال بُنيتها وتركيبتها وقدرتها الاشارية التي تغني النص اختزالاً ،وتثريه دلالةً وتحثُّهُ على إعمال عقل المتلقي. مع أن هذا التنقل ضمن الذاكرة / المكان وما يرافقه من تغير دلالي رمزي ايديولوجي ، ورغم افتقار هذا التحول في أجزاء بعض القصص إلى مداعبة الخيال والهروب من التفاصيل والأسباب ،تظهر فيه الشخصيات والأشياء المتلبسة بالأحداث ، وفقاً لمؤثرات التغير المكاني تحمل ربّما ضعفاً في بُنية الخيال والوصف، أو يأساً من استحداث أي تطور يمكن أن يشكل علامة فارقة للأمل، بدفع تلك العقول الضيقة نحو منابع النور.
لنقتبس من قصة “دخان” المقطع التالي : ” كان ولدي معاذ يحبو على الأرض،وكنت ألاعبه ، ومن شدة ولعي بالسجائر لم أكن أترك السيجارة ترتاح خارج فمي، واثناء اللعب معه ، اصطدمت السيجارة بعين ولدي ، ونتج عن ذلك حرق بسيط في مقدمة العين ، ولم يهتز لي جفن، من شدة حبي وإدماني على التدخين “.-ص66 شارة الأدب السَّاخر فقد ارتبط المكان عند الشعوب عامة ، بدلالات ميثو لوجية دينية وأيديولوجية رمزية خاصة ، أفرزت أنساقاً دلالية وفنية سعت عبر النص ، من إعطاء المكان بعداً وجودياً إنسانياً ،وعلى الرغم من أن عنصر المكان يبدو متناهياً بتعبير ( يوري لوتمان )غير أنه يحاكي موضوعاً متناهياً العالم الخارجي ،ولو عدنا إلى مذكرات “د.الزغول” نرى بسهولة قلمُهُ كيف امتطى شارة الأدب السَّاخر للبَدْء. تجلّى ذلك في قصة ” العظماء والكلاب” حيث يقول:” جلسنا لتناول العشاء جميعاً،ناديت على زوجة زميلي وقلت لها : إذا كان زوجك والذي أحضر معه من الهدايا أثمنها ،ومن الفواكه أحسنها، ومن الملابس أجودها، استقبله أطفالك هذا الاستقبال ، وفضلوا استقبال الكلب على استقبال أبيهم، فماذا أقول أنا وكيف سيستقبلني أولادي !! الرجال العظماء لا مكان لهم إنه عصر الكلاب .”ص-9 القلق و تداعي الذاكرة وعلى هامش قصة “ذكريات يشرح بشكلٍ واضحٍ عبر تداعي الذاكرة، القلق المرتبط بالماضي والحاضر والمستقبل على الوطن، إذ يقول :” كانت الأحلام كبيرة ،وكان الطموح أكبر، حاولنا أن نستذكر أحلام الطفولة، نحاول دائما أن نستحضر ذكريات الطفولة عندما نجتمع ، كانت السهرات تطول، وكان الحديث ذا شجون ..هل نتذكر بيوت الطين ،أم نتذكر ألعابنا ونحن أطفال ،والمصنوعة من المنتجات المحلية( شرايط قماش،أسلاك البيوت ، علب السمك ،العصي ) ،وإذا تطورت الأمور أمكنك صناعة سيارة من الأسلاك، وتضع عليها قطعة قماش كعَلَم ،كم نحب العَلَم ونحن أطفال، كنّا نرى فيه نوعاً من الفخار والعزة .” –ص 17 تداعي الأحلام تداعي الأحلام والحنين إلى المكان و لحظة الطفولة ، يؤكد استخدام مصطلح ( ذاكرة المكان ) لم يجيء من باب المجاز ، لأنَّ وجود المكان في ذاكرة الإنسان لم يأت من فراغ، بل جاء نتيجة علاقة قائمة بالضرورة على الحضور والتعايش معاً، ويمكن تشبيه هذه القدرة المتميزة “للذاكرة” داخل الزمن بقدرة العين داخل المكان . الصورة القاتمة لا تكف ذاكرة السارد”الزغول “عن الحركة مانحة بذلك الزمن صورًا قاتمة متمركزة داخل الذات الإنسانية المستمرة في وجودها،وحلمه العربي كالحلم عابر للزمن لا يقف عند حدٍّ ومن صور تقطيعه لأسلاك الزمن وموازاة المكان يبدو جلياً في قصة العلقة :” صيف جميل هو صيف مدينة العمرية في الجزائر ، حيث تقع في منطقة جبيلة ، وهي منطقة خضراء ساحرة ، وأهلها يجمعون بين كرم العربي وشجاعته، مع قوة المسلم في صراع أشكال الظلم ، كنت أستمتع يوميا بالحياة الهادئة ، ودفء المعاملة من الناس الطيبين الذين نتعامل معهم كل يوم .”-ص19 الذاكرة والانطباع ويُحيلنا هذا التذكّر بعد النسيان إلى ما سبق لأرسطو أن أقرّه عندما قال: “إنّنا حين نتذكّر يكون في داخلنا ما يشبه الصورة أو الانطباع، حيث يرى “كيسي “أن ذاكرة المبدع كخبرة فينومينولجية معيشة لا تختار مسكنا أو مكاناً مألوفاً بل تكون ذاكرتها انتقائية في أغلب الأحيان، في اختيارها لأماكن تعتمد فيها على الألفة والمحبة في اختيارها أو تعلقها بها.”
ومن المعروف أن معنى المكان هو الحيز المادي والمعنوي والافتراضي، الذي تتكون الوقائع والأحداث والأفعال ضمنه ويستحيل تصور وجودها من دونه، فالمكان ليس حيزا ماديا وذاكرة فحسب، بل هو عنصر أساسي في حياتنا، فهو مادة الحياة إن لم يكن ماء الحياة ذاتها. حوار الذات هل يمكن للنفس أن تحاور ذاتها إذا لم تعرف استدعاء الآخر ..؟ يضعنا حوار “الزغول ” مع ذاته ومعاناته مع الآخر ضمن دائرة انزياحات دلالية تحمل بصمات الصدمات الأولى بقوله :” كنت اسابق الزمن من أجل الحصول على شهادة طب الأسنان ،أعدّ الأيام والليالي وأنا أجد وأتعب للحصول على الشهادة، لم أستطع حتى الانتظار من أجل حضور حفل التخرج .. كنت أظن أن الأهل بحاجة لي ، وأن الوطن سيكون أحوج .”ص-55 الأرق الوجداني تشكل قدرة ـ تلافيف الذاكرة ـ لطبيب الأسنان إلى جانب قدرة الاعتراف بالآخر و بأخطاء السلوك البشري إشكالية قصوى سواء في سرد أطياف الخطاب الوجداني والتاريخي والسياسي والثقافي ككل، أو ربّما ترجع هذه الذاكرة إدراكياً إلى المنظور المشترك للتجارب الحسية في التشكيل الفسيفسائي كي تؤدي الذاكرة دورًا جوهريًا في الحياة اللاواعية والواعية للذات الإنسانية.. فهي تعبر عن عصر سلبت فيه إرادة الإنسان تحت تأثير الإدمان للثقافة العنكبوتية ، وما أفرزته من تداعياتوصراعات اجتماعية.
ولنتأمل هذا الأرق الوجداني في قوله :”كم هو عظيم أن نوائم بين ما نأخذه من تكنولوجيا حديثة ، وما نمارسه من سلوكيات “-ص50 لم يستطع السارد أن يصل إلى مبتغاه في الصعود إلى سلالم الأمكنة ولا بالنزول إلى العالم السفلي باقتناص اللحظة بطريقة أسلوبية تثير الدهشة ،ولا تمكن من التغلب على الحواجز الملتفة حول عنق قلمه ، كي يتغلغل في الباطن الحسي أو البصري، واكتفى قلمه بنقل ذلك الشجن دون أي تدخل يذكر منه. السؤال مفتاح الفاعلية الذهنية ويأتي السؤال مفتاح الفاعلية الذهنية ،ليشكل انعطافا باتجاه صحة التفكير في بعض القصص، ويوقظ الفاعلية الذهنية، والتخلص من بعض الضلالات اللغوية ، فيطرح بعض التساؤلات حزيناً فتبدو صورة الواقع والخراب الثقافي الذي يحيا تحت سقفه الإنسان العربي :”هل لنا أن ننشر ثقافة الشكر بيننا ؟هل لنا أن نعزز ثقافة الاعتراف بالجميل ؟ويجزم الجواب في قصة “احترام الشارع :” كثير من تصرفات الناس تعكس أفكارهم ومدى تحضرهم ،لكنني أجزم أن كل تصرفات الإنسان تعكس مدى تحضره أو تخلفه .” القوة الروحية خلاصة القول، “الذاكرة” هي القوة الروحية التي تمد وترفع إلى مستواها الصور المُنتَجة عبر الحركة المستمرة للذات الإنسانية ،ومنها ومن خلالها تنبثق أهميّة القص في “مذكرات طبيب أسنان” من حجم الصراع الفكري والدموي بين الإنسان والإنسان، فإنّ ثقافة الاعتراف بالآخر تمثل يقظة متأخرة لمراجعة التاريخ الإنساني، وما اكتظّ به من فظائع وآلام، انطلاقاً من أنّ الاعتراف بنيّة فكريّة للذات من شأنها قلب تكوين الذات نفسه، فتجعل من تقدير الذات لذاتها صورة من صور الاعتراف بالآخر، باعتباره الخارج الذي يقيم داخل ثنايا الأنا، وباعتبار الذات هي التي تشكل جغرافية الكل المعرفية. الإحساس بروح المعنى على سبيل الختم – يقول رولان بارت -: “الفعل الأدبي يحتمل عدداً غير محدود من القراءات “،والقصة القصيرة فن الاستجابة للطارئ في الواقع والذاكرة توحي بعظمتها من خلال إحساسها بروح المعنى للأشياء.. إذ أن ” ما يوحي به الفن العظيم هو الذي يدرك روح الأشياء ،وهو الذي يدرك ما يربط الفرد بالكُلِّ وما يربط كل جزء من اللحظة بالديمومة الأبدية.
اقرأ/ى أيضا : محكمة أمريكية تدين مواطنة بسبب “كلبة”
عذراً التعليقات مغلقة