هل السودان بلد فقير حقاً؟**
- هل هي مصادفة أن يصنّف السودان ضمن الدول العشر الأكثر فساداً في العالم؟!
- هل السودان بلد فقير حقا رغم موارده الهائلة اقتصاديًا وبشريًا على حدٍ سواء؟
- معظم ميزانية البلاد تُخصص للأمن و”الشؤون السيادية”، بينما يخصص 5 بالمئة منها للصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية!
بقلم: نهلة الشهال
مساحته أكثر قليلاً من مليون و865 الف كليلومتر مربع، وعدد سكانه 37 مليوناً.. نصفهم تحت خط الفقر. ويخترقه النيلان الأزرق والأبيض اللذان تقع العاصمة الخرطوم على ملتقاهما. لكنه حتى 2005 كان لا ينتج إلا 730 ميغاوات من الكهرباء، الى أن تضاعف الرقم في 2015 بفضل الانتهاء من سد مروي (الذي انشئ كمشروع تعاوني مع الصين وبتمويل منها ومن صناديق انمائية عربية).
وعلى ذلك، ما زال ثلث السودانيين فحسب يتمتعون بالكهرباء، وما زالت المشاغل تعمل بربع إمكاناتها بسبب ضعف التيار الكهربائي وانقطاعاته المتكررة.
والسودان بلد زراعي عريق، شاسع المساحات وتتعدد فيه المناخات بما يتيح إمكانات هائلة، فتتوفر فيه المراعي والمواشي التي يعمل فيها ثلاثة أرباع السكان. وينتج القطاعان 40 في المئة من الدخل الوطني الخام..
لكن السودان ما زال يستورد المواد الغذائية وعلى رأسها القمح، والأنسجة (بينما هو يصدِّر القطن!) والادوية، وقطع الآلات التي تحتاجها المصافي والموانئ، بما قيمته 8.649 مليار دولار سنوياً بحسب أرقام 2017.
فيما يصدّر نفطاً وذهباً وقطناً وسكراً وصمغاً نباتياً وسمسماً وسواها.. بما قيمته 3,808 مليار دولار. وفي تلك السنة (2017) بلغ حجم الانفاق العام 13,4 مليار دولار، لكن يبدو أن ثلاثة أرباع ميزانية البلاد تُصرف على الأمن و”الشؤون السيادية”، بينما لا يخصص إلا 5 في المئة منها لبنود الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية..
وفي السودان نفطٌ (وإن كان 70 في المئة منه يُنتج في جنوب السودان) وميناء كبير (“بورتسودان”) يقع على البحر الاحمر، وهو المنفذ الوحيد الى البحر لعدد من دول الجوار، كجنوب السودان وأثيوبيا وتشاد.
دفع عمر البشير، حاكم السودان منذ 1989، بحجة العقوبات التي فرضتها لعقدين من الزمن الولايات المتحدة الامريكية على البلاد، كسبب لتعثر الاقتصاد. وهذا كان ولا شك ثقيل الوطأة، لكن الصين أولاً ودول الخليج ثانياً، لم توقف استثماراتها في البلاد. والعقوبات الامريكية رُفعت في تشرين الاول/ اكتوبر2017.
وهو دفع بانفصال جنوب السودان (نتيجة مسار قتالي ثم تفاوضي انتهى باستفتاء لصالح استقلال جنوب السودان في 2011) كسبب للتعثر، ولكن الدولة الجديدة تُصنّف اليوم كأفقر البلدان على وجه الارض وتخترقها النزاعات المسلحة، القبلية والاثنية، وفساد مستشر وبؤس لا يوصف، بحيث ان اتفاقاتها الاقتصادية مع شمال البلاد، وبالأخص على الحصص من إيرادات تكرير النفط وتصديره، هي خشبة خلاصها الوحيدة.
فلماذا يبقى 46,5 في المئة من السكان تحت خط الفقر إذاً؟
دفع البشير بأن السبب هو التمردات في دارفور وولايات النيل الأزرق وجنوب كردفان، ولكل واحدة منها قصة طويلة، يمتزج فيها الفقر بالإهمال بالاضطهاد (المريع غالباً) في بلد يبلغ عدد اثنياته 578 مجموعة، ولغاته المختلفة حوالي 145، وإن كانت العربية هي لغته الرسمية (مع الانكليزية)، وإن كانت أغلبيته من المسلمين.
(هناك تيارات بالغة الاهمية في تاريخ السودان الحديث منذ القرن التاسع عشر، وهي في أساسها تصوفية وسياسية، وأبرزها الأنصار أو المهدية، والختمية، وهي تضم إلى العرب، أبناء مناطق وأثنيات مختلفة، وتنتظم في حزبين سياسيين هما حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي، وقد تفرع كل منهما الى عدة أحزاب.. وكل هذا يضيف ابعاداً أخرى الى تعقيد المشهد)..
كما نشأ في السودان تنظيم للاخوان المسلمين كان واسع الانتشار والنفوذ، وبالأخص في ظل زعامة حسن الترابي له، وأيضاً حزب شيوعي كان هو الآخر في وقت من الأوقات بالغ الانتشار والقوة، ونقابات عمالية، وحركات ثقافية حداثية..
وللعلم فقد تفوق عدد النساء السودانيات خريجات الجامعات في البلاد على الرجال في العام 2011. وللعلم أيضاً، تمكن السودانيون من إبطال حكمين عسكريين شرسين في الماضي القريب بفضل ثورات جماهيرية سلمية عارمة:
– في تشرين الاول 1964 (“ثورة اكتوبر”) ضد حكم الفريق إبراهيم عبود الذي انقلب في 1958 على حكومة ائتلافية مدنية بعد عامين من استقلال البلاد في 1956،
– وفي نيسان 1985 (“انتفاضة ابريل”) ضد حكم جعفر النميري الذي قام بانقلاب عسكري في العام 1969.. مما يُذكِّر كذلك، وبالضد من هذه الوقائع المهمة التي تكاد ان تشكل خاصية هنا، والتي تُستحضَر هذه الايام، بأن الجيش السوداني قد كان كذلك شريكاً دائماً في الأحداث السياسية في البلاد.
واليوم، على إثر التحركات الجارية – التي انطلقت بمعزل عنهم، وبرز فيها بالأخص عنصرا الشباب والنساء – اجتمعت “الجبهة الوطنية للتغيير” (وهي تضم 22 حزباً وفريقاً سياسياً شاركوا في “مبادرة الحوار الوطني” في 2014 التي كان قد دعا اليها البشير، وبعضهم كان مقرباً من السلطة القائمة) للمناداة “بالحرية والتغيير”، وباستقالة البشير، وبحكومة مدنية انتقالية وبمؤتمر دستوري يهيئان لانتخابات حرة وسلطة مدنية.
ولعل الأهم هو بيان “تجمع المهنيين” الذي وُلد كبديل عن النقابات التي تمكنت السلطة من التغلغل فيها ومن وضع يدها عليها. التجمع هذا حاضر بالأخص في أوساط الأطباء والصيادلة والمحامين والمعلمين والصحافيين.
وهو ساهم بنقل الحركة الاحتجاجية من مطالب الحد الأدنى المعيشية المتعلقة بالاحتجاج على ارتفاع أسعار المواد الاساسية، وبالأخص الخبز والوقود، وعلى الافتقاد للسيولة النقدية، الى مطالب سياسية عامة تتعلق بنظام الحكم..
ويستند التجمع الى تجارب نضالية لعل أبرزها الاضراب الذي قادته “لجنة أطباء السودان المركزية” في تشرين الأول/ أكتوبر 2016، كان في غاية الفعالية والتنظيم وفرض على الحكومة التفاوض حول المطالب التي تعلقت بتحسين حالة المستشفيات والعناية الصحية وبوقف تغول الاجهزة الامنية على كادراتها.
فهل السودان بلد فقير حقاً.. وهو الذي يمتلك كل تلك الموارد الاساسية، الاقتصادية والبشرية على حدٍ سواء؟
وهل هي مصادفة أن يكون مصنّفاً ضمن قائمة الدول العشر الأكثر فساداً في العالم (وهي تضم ستة بلدان عربية!)، وأن يكون هناك بمقابل نصف السكان الذين يقعون تحت خط الفقر، بضعة ألوف من أصحاب المليارات.. ويبدو أنهم جميعاً في دوائر السلطة والحكم وتقاسم النفوذ أو على اتصال بها؟
للبحث تتمة..
* د. نهلة الشهال كاتبة وناشطة لبنانية رئيسة تحرير “السفير العربي”
**على منوال “هل مصر بلد فقير حقاً؟ ” للباحث الاقتصادي عبد الخالق فاروق الذي أغضب السلطات في مصر فقامت باعتقال الباحث ومصادرة الكتاب!
المصدر: السفير العربي
عذراً التعليقات مغلقة