لماذا زار الرئيس البشير دمشق.. قراءة في نقطة التحول الاستراتيجي؟
لا يتوقع تغير في مشاركة السودان بحرب اليمن أو موقفه من إيران لعدم إثارة غضب السعودية لكنه محتمل إذا لم تقدم السعودية إغراءات للسودان في الملف الأمريكي وفي الملف الاقتصادي.
بقلم: أسامة الأشقر
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلا بمعرفة تفصيلية بالواقع السوداني المحلي، ومن ينظر إلى الملف من نافذة العلاقات الدولية فحسب فسيخطئ القراءة كثيراً.
تعاني السودان منذ قرار رفع العقوبات الأمريكية عليها جزئياً مع بداية ولاية ترامب من عدم تغير الأمور كما كان متوقعاً إذ لم يترجم القرار السياسي إلى قرارات تنفيذية نظراً للاشتباك مع قرارات أمريكية أخرى ولعدم رغبة الأمريكان في تسريع التطور في العلاقة حتى إنجاز قائمة المطلوبات في ملف دارفور والمناطق الثلاثة وملف جنوب السودان وملف الحريات وملف التوجهات العامة.
أزمة النقد الأجنبي وعدم توفر العملة الأجنبية وتهريبها المنظم للخارج عن طريق عصابات أدت إلى سلسلة من الأزمات:
- أزمة وقود طاحنة أدت إلى صفوف طويلة عطلت الحياة وعمليات النقل والشحن وأضعفت القدرة على الحركة منذ نحو سنة.
- أزمة كبيرة في دقيق الخبز وارتفاع قيمته أضعاف ما كان عليه.
- أزمة كبيرة لدى قطاع المستثمرين الذي لا يستطيع تحويل أرباحه للخارج ولا التعامل بها داخلياً ولاسيما في عدم قدرة البنوك على تزويدهم بالعملة الأجنبية نظير الجنيه السوداني.
ثم تطورت الأزمة في النقد الأجنبي إلى أزمة في السيولة النقدية للعملة المحلية والتي أدت إلى صفوف طويلة على أبواب البنوك والصرافات الآلية وأضعفت القدرة الشرائية بصورة كبيرة ولاسيما في مواسم الإنتاج الزراعي وعمليات التشغيل التعديني، وسادت العمليات الوهمية في التجارة والمضاربات المدورة.
هذا كله جاء بعد تغيير كبير في السياسة السودانية التي كانت تنتظر تحولاً في المواقف الأمريكية والعربية تجاهها تساعدها على تجاوز أزمتها الاقتصادية، حيث قامت السودان بعدة تغييرات استراتيجية في سبيل تحسين ملفها أمام الإدارة الأمريكية وحلفائها:
- فقد أنهت علاقتها مع إيران وطردت البعثة الدبلوماسية الإيرانية وجميع المؤسسات الإيرانية بحجة نشاطها في نشر التشيع.
- وشاركت بقوة في التحالف السعودي الإماراتي ضد الحوثيين في اليمن.
- وقطعت علاقتها نهائياً مع كوريا الشمالية.
- والتزمت بسقف القرارات العربية في المسألة الفلسطينية وأعادت ترتيب علاقاتها مع القوى الفلسطينية بهذا الشأن.
- وطورت علاقاتها مع مصر بعد انقلاب السيسي وتجاوزت معظم الأزمات معها.
- ودخلت في خط الوساطة بقوة بين الفرقاء المتشاكسين في جنوب السودان، وفي خط الوساطة بين مصر وإثيوبيا..
كل ذلك لم يؤد إلى تحسن اقتصادي أو اهتمام فقد استمرت العلاقات فاترة مع السعودية ولم يزرها مسؤول رفيع طيلة تلك الفترة؛ ولم تساعدها في تجاوز أزمتها؛ ولم ينفتح الاستثمار السعودي والأمريكي كما هو متوقع ؛ بل ظلت التحويلات البنكية متوقفة بين البلدين، حتى قطاع الاتصالات والصحة والزراعة الذي رُفعته عنه العقوبات لم يجد أي مسار تنفيذي عملي لتغيير وضعه.
كان السودان بحاجة إلى مظلة سياسية تحميه وإلى شبكة أمان اقتصادية تعينه على حل مشكلاته وهذا لم يتوفر في أمريكا وحلفائها في المنطقة ولا في الأوروبيين طيلة السنين الخمسة السابقة مع بداية التحولات، وكان لا بد من التوجه إلى روسيا وكان يجب أن يسبق ذلك تمهيد الطريق مع مصر التي تعترض على هذه العلاقة الاستراتيجية وتجعل روسيا مترددة فيها.
وقد تفاهمت السودان مع السيسي تفاهمات استراتيجية مهمة أدت إلى رفع الاعتراض المصري على هذا السقف ؛ ولم يغب عن السودان الدور التركي الذي أسهم أيضاً في دفع هذه العلاقة إيجابياً والمساعدة في إنجازها.
ولم تأت هذه الخطوة إلا بعد استفراغ الجهد في تطوير العلاقة مع المحور الأمريكي السعودي حتى سادت القناعة بعدم جدوى هذا المسار، واجتمع المكتب القيادي للمؤتمر الوطني “الحزب الحاكم” قبل أيام من زيارة دمشق ليعلن داخلياً عن بداية السير في المحور الآخر وأن هناك إجراءات يجب اتخاذها بهذا الصدد، وكان الترحيب الكبير الذي لقيه في بيلاروسيا حليفة روسيا والاتفاقات الكبيرة معها دافعاً كبيراً للبشير لحسم خياراته.
وقد سرّع في بناء هذه العلاقة أزمة خاشقجي والتي أدت إلى ضعف المحور السعودي وتراجع دوره في التأثير على السياسة الأمريكية وهو الأمر الذي كانت تعول عليه السودان في تحسين العلاقة مع واشنطن؛ مما جعل الطريق واضحة أمام السودان أنه لا أمل في مسار العلاقات السعودية الأمريكية التي لم تستطع أن تقدم شيئا ملموسا للسودان وأنه قد حان الوقت لمسار جديد..
وبخصوص زيارة دمشق فقد كانت روسيا حريصة على علاقة قوية مع السودان لكن الاعتراض المصري كان يقف حائلاً دون ذلك وقد جرى رفعه وكان هناك تخوف من استدارات السودان مع حلفائها السابقين تبعا للظروف الاقتصادية والضغوط الأمريكية والسعودية والمصرية.
وكان مطلوباً من السودان أن يمارس دوراً مختلفا عن السياسة العربية الجامدة وأن يشارك في المسار السياسي لحسم الأزمة السورية وإنهائها – وهو ما تدعو إليه روسيا – وأن البداية لابد أن تكون بالتفاهم مع الرئيس السوري بشار الأسد الطرف الذي بات أقوى الآن في المعادلة السورية.
وهو ما وافق السلوك السياسي السوداني الذي تعامل بحياد سلبي في الأزمة السورية حيث شارك في معظم القرارات العربية ضد النظام في سوريا لكنه لم يقطع العلاقات الدبلوماسية.
بل فتح أبوابه لكل السوريين بكل توجهاتهم، ولم يسمح للمعارضة السورية أو النظام أن يتخذ من السودان محطة تحريض أو عداء بين السوريين بل نقطة تواصل واجتماع، وهي الدولة الوحيدة التي تمنح السوريين حق الدخول بدون تأشيرة مسبقة، كما منحت الجنسية السودانية لآلاف السوريين المقيمين فيها.
عموماً ليس من المتوقع قريباً أن يؤثر هذا التغير على مشاركة السودان في حرب اليمن أو تغير الموقف من إيران لعدم إثارة غضب السعودية لكن هذا المسار متوقع إذا لم تبادر السعودية بتقديم إغراءات حقيقية وملموسة للسودان في الملف الأمريكي وفي الملف الاقتصادي.
* د. أسامة الأشقر باحث في شؤون السودان.
المصدر: السبيل
عذراً التعليقات مغلقة