بقلم: هوشنك بروكا
لا جديد في سوريا الغارقة منذ 15 شهراً بدماء أبنائها، سوى السقوط في المزيد من الدماء، فضلاً عن الإنزلاق نحو المزيد من المجهول.
كلّ شيء يكاد يراوح مكانه في الأزمة السورية؛ كلّ شيءٍ يكاد يكون فيها ثابتاً كالقبور. فالنظام في فاشيته ثابتٌ، ورئيسه المتمسك ب”مقولاته المعطّلة”، والدائر ظهره لكلّ العالم ثابتٌ؛ والمعارضات السورية الساقطة في اختلافاتها وخلافاتها ومناوشتها ثابتة؛ والشعب الذي ليس له إلا أن يلعق جراحه ثابتٌ؛ والثورة المحاصرة بأكثر من داخلٍ وخارجٍ ثابتة؛ والعالم المتفرج من حولهم لا يزال ثابتاً. ربما المتغيّر شبه الوحيد، في التراجيديا السورية، هو منسوب الدم السوري المستباح، على طول المكان السوري وعرضه، المفتوح على شتى صنوف الإرهاب والقتل والتعذيب والتدمير والخراب.
من هنا لا يمكن الحديث في سياق الأزمة السورية، التي لا تزال ثابتةً في مجمل مساراتها، عن أيّ جديد في ما يخص خطة المبعوث الدولي والعربي المشترك كوفي أنان.
فأنان الذي أقرّ ضمنياً بفشل خطته، لم يأتٍ بأيّ جديدٍ، حين حذّر العالم من أن الأزمة السورية “تزداد تعمقاً” وأن العنف في سوريا “يتصاعد إلى مستويات أسوأ”، فالفشل كان لا بدّ أن يُكتب لخطته، في ظلّ نظامٍ فاشيٍّ، أرعن، ومراوغ، كالنظام السوري، تعوّد على طريقة “الغوبلزيين”، أن “يكذب ويكذب ويكذب حتى يصدقه الناس”.
ثمّ إن الأزمة السورية لم “تزدد تعمقاً” الآن للتو، ولم يذهب العنف فيها إلى حدّه الأقصى مع الخطة أو أثنائها، على حدّ تعبير دبلوماسية أنان، وإنما قبل ذلك بكثير. فسوريا ليست على شفا حرب أهلية، أو على وشك السقوط فيها، كما يُخشى،، وإنما هي دخلت الحرب مع نفسها منذ زمنٍ. هذه الحرب الطائفية بامتياز، بدأت في سوريا، منذ أنّ سمى النظام السوري الفعل الثوري، بـ”الفعل الإرهابي”، وسمى شعب الثورة بـ”شعب الإرهاب والعمالة للخارج و المندسيّن والمغرر بهم”.
يجب القول أنّ النظام نجح في “تطييف” سوريا، سياسةً وثقافةً واجتماعاً. هو لم ينجح في “تطييف” نفسه، عبر استمالته للطائفة العلوية، وكسبه لولائها وإحتمائه بها فحسب، وإنما نجح أيضاً في صناعة الطائفية المضادة، ودفع الثورة وأهلها، نحو المزيد من “التطييف المضاد”، وإظهارها للأغلبية الصامتة (لا سيما الأقليات كالدروز والمسيحيين والأكراد ناهيك عن العلويين) بأنها مجرّد “تمرّد سن ي سلفي” ضد “نظام علوي”.
وما يحدث على الأرض في سوريا من مجازر فظيعة، ليس إلا ترجمةً حقيقية لهذه الثنائية الطائفية الأكثر من قاتلة، والتي نجح النظام في تكريسها وتعميقها في عموم المجتمع السوري من أقصاه إلى أقصاه.
الطائفة إذن، ومن ورائها حزب الله وإيران (وليس روسيا ولا الصين)، هي على ما يبدو، رهان النظام الأخير.
حرب الأهل ضد الأهل هذه، سورياً، بدأت والحال، منذ أن نجح النظام في الإختباء وراء الطائفة والإحتماء بها، ما أدى بالنتيجة إلى انزلاق الفعل الثوري السوري، هو الآخر، في بعض مساراته، إلى “فعل طائفي”، فتحوّلت الكثير من جمع الثورة وشعاراتها إلى جمع وشعارات “سنية” بدلاً من أن تكون جمع وشعارات سورية صرفة. أما الخطأ الأكبر في ردة الفعل الطائفية هذه، والتي نجح النظام إلى حدٍّ كبير في استغلالها ضد أهل الثورة، فهو ظهور “جيش الثورة” بمظهر “جيش الطائفة”، أكثر من ظهوره كجيشِ كان من المفترض به أن يكون جيشاً لعموم سوريا. هذا ناهيك عن دخول “طرف ثالث” مسلح يقوده “جماعات إسلامية متطرفة”، عابرة للحدود، على خط الصراع، لـ”نصرة” الشعب السوري، وهو ما عكّر صفوة الثورة وأهلها، وزاد من طينها بلةً.
لا شكّ أن “جيش الثورة” ممثلاً بـ”الجيش السوري الحرّ”، هو في المنتهى، نتيجةٌ (وليس سبباً) للقتل المبرمج الذي اتخذه النظام السوري، منذ بداية الثورة، سبيلاً لإسقاط الشعب الذي يريد إسقاطه. فإصرار النظام السوري على شعار “يا قاتل يا مقتول”، هو الذي دفع بعناصر “الجيش السوري الحرّ” وتوابعه، إلى الإنشقاق من “جيش يقتل شعبه”، إلى “جيش يحمي شعبه”، كما يقول لسان حاله، ولسان حال البعض في فوقه السياسي، الممثل ب”المجلس الوطني السوري”.
ولا شك أيضاً، أنّ “الجيش السوري الحرّ”، بغض الطرف عن الإتفاق أو الإختلاف معه، هو في النهاية جيش مولود من رحم الثورة السورية، ونتيجة من نتائجها.
هو، إذن، جيشٌ من الثورة وإليها، ولا جدال في أنه يحمي بعضاً من أهلها، في بعض حمص، وبعض إدلب وبعضٍ من ريف دمشق. لكنّ كلّ ذلك لا يعني، بأنه “جيش الرحمن المقدس” الذي يقابل “جيش الشيطان المدنس”، أو “الجيش الصح الذي لا يخطأ” مقابل الجيش الكليّ الخطأ. فأخطاء جيش النظام لا تمحي أخطاء “جيش الثورة”.
تشكيلة “الجيش السوري الحرّ” وكتائبه المسماة غالباً بتسميات طائفية صرفة، تقول بأن أكثر ما يميّز هذا الجيش هو “عقيدته السنية” المضادة لعقيدة جيش النظام “العلوية”. النظام السوري حاول منذ البداية، الـتأسيس الطائفي لهكذا ثنائية طائفية قاتلة، ونجح إلى حدٍّ كبير في إظهار نفسه بمظهر “المدافع الأول والأخير” عن الطائفة العلوية، ضد “الخطر السني” القادم. طائفة النظام الآن، هي رهانه وحصنه الأخيرين. هو ربط نهايته، على ما يبدو، ب”نهاية” طائفته، كما ربطت هذه الأخيرة “نهايتها” بنهايته، ما يعني أنه سيدافع عن وجوده حتى آخر “علوي”. وما حشدُ الأسد للأسلحة الإستراتيجية في المناطق العلوية، طيلة الأشهر الماضية، إلا خطوةً استباقية، لمواجهة “المارد السني” في سوريا القادمة.
كما العنف يولّد العنف، كذا القتل في سوريا وّلدّ القتل، ولا يزال حبل القادم منه على الجرّار.
ما يعني أنّ حرب الأهل ضد الأهل، وحرب سوريا ضد سوريا، قد بدأت منذ زمنٍ، وهي منزلقةٌ إليها في قادم النظام وقادم الثورة على حدٍّ سواء، شاء من شاء وأبى من أبى.
“خطة أنان” باتت قاب قوسين أو أدنى من “الإنهيار”، هذا كان متوقعاً منذ الأول من ولادتها، لأنها كانت ولا تزال خطة هشة “بلا أسنان”، كما يقال. فالمشكلة ليست في الخطة ذاتها، بقدر ما أنها في التطبيق. والأسد لم ولن يطبق ما في الخطة، لأن دخولها في التطبيق الحقيقي، سيعني خروجه الحقيقي ليس من السلطة فحسب، بل من كل سوريا، وربما من كلّ العالم.
أما المشكلة الأكبر، فهي عدم وجود أية بدائل حتى الآن لهذه الخطة. فعلى الرغم من الجهود الدولية التي تبذل هنا وهناك، لتشكيل “مجموعة إتصال دولية” تضم كافة الدول الفاعلة في الأزمة السورية، للبحث عن مخارج جديدة لها، إلاّ أن الإجتماع الثنائي الأخير الذي عقد أول أمس في موسكو بين ممثلي خارجية روسيا وأميركا، أثبت أنّ الطريق إلى هذه المجموعة، لا يزال محفوفاً بالكثير من العقبات والمشاكل والخلافات، لعل أهمها فكرة “إشراك” إيران في المجموعة. أما “السيناريو يمني” الذي يجري الحديث عنه مجدداً في الكواليس الدولية، فرغم كونه أفضل الحلول وأقلها كلفةً للجميع، إلا أنّ تكراره سورياً، يبدو حتى اللحظة شبه مستحيلاً، إذ فيه من الشعر أكثر من السياسة، فالنظام والمعارضة، لا سيما تلك الممثلة بـ”المجلس الوطني السوري” على حدٍّ سواء غير جاهزين لهكذا حلٍّ، لأن كليهما يركبان السياسة ذاتها “سياسة قتل الناطور”، أو سياسة “الكل أو لا شيء”. هذا ناهيك عن الفروق الكبيرة بين طبيعة الثورتين، والشعبين، والنظامين، والمعارضتين.
في المقابل بين هذا السيناريو وذاك، لا توجد حتى الآن أية مؤشرات جادة من “أصدقاء الشعب السوري” تدلّ على نيتهم بالقيام بأي تدخل عسكري في سوريا. الكلّ يريد إسقاط النظام، ويريد للأسد أن يتنحى، ويريد للشعب أن يرسم مصيره بنفسه، لكن كيف؟ لا أحد يجيب على هذا السؤال. ربما لأنّ جوابه سيكون مكلفاً للجميع.
السؤال الأساس إذن، هو كيف سيسقط هذا النظام؟
الأكيد أنّ الشعب السوري، بعد دفعه طيلة الأشهر ال15 الماضية، لأكثر من 14 ألف شهيدٍ(بينهم حوالي 10 آلاف مدني)، بحسب آخر إحصائيات “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، وأضعاف هذا العدد من الجرحى والمعوقين والمشردين والمعتقلين، لن يستطيع إسقاطه لوحده. بقي الحلّ(وربما الأوحد) في التدخل الدولي الذي لا يزال مؤجلاً إلى أجل غير مسمى.
كلما تأجل التدخل الدولي، كلما تأجلت سوريا، وكلما تأجلت هذه الأخيرة، كلما تأجلت الثورة وتأجلت دماء السوريين، إلى أن يشاء العالم ومجلس أمنه.
ليس أمام سوريا والسوريين إلى طريقان لا ثالث لهما: إما التدخل الدولي تحت غطاء الأمم المتحدة وفقاً للبند السابع، وهذا لا يزال مستبعداً في ظل عناد الفيتو المزدوج الروسي/ الصيني، أو التدخل برغبة من “أصدقاء سوريا” خارج إطار الأمم المتحدة، وهذا هو الأرجح والأمكن.
بعد “إنهيار” خطة عنان، سواء مع وجود “خطة بديلة” أو بدونها، مع التدخل الدولي وبدونه، ستبقى الحرب الأهلية(وربما الطويلة الأمد)، هي عنوان المرحلة القادمة في سوريا.
لا إشارات تدلّ على أن “النظام السوري يعيش مراحله الأخيرة”، على حدّ تصريح رئيس المجلس الوطني السوري الجديد د. عبدالباسط سيدا، ولا دلائل تشير إلى أنّ “ساعة التحرير قد دقت، وأن وقت التغيير قد حان”، كما صرّح لسان حال “الجيش السوري الحرّ” اليوم، فالوقائع اليومية على الأرض في المكان السوري الملتهب، تقول بغير ذلك. لكنّ من شبه المؤكد إنّ الصراع في سوريا وعليها لن ينتهي بإنتهاء النظام وسقوطه. فهذا الصراع الذي تحوّل من صراع في سوريا إلى صراعٍ عليها، لم يعد صراعاً محصوراً بين نظامٍ يريد إسقاط الشعب وشعبٍ يريد إسقاط النظام، كما كان الحال عليه في الأول من الثورة، وإنما تطوّر بكلّ أسفٍ، إلى صراعٍ بين شعبٍ وشعب، طائفةٍ وطائفة، عقيدة وعقيدة، أقلية وأكثرية.
نظام الأسد سيسقط، عاجلاً أم آجلاً، لكن الخشية الكبرى هي أن تسقط معه كلّ سوريا، أو يسقط معه كلّ السوريين، بكلّ أحزابهم وطوائفهم وأعراقهم، في نار حربٍ أهلية طاحنة، طويلة الأمد، لا طائل منها.
الأسد ونظامه سيسقطان، رغم أنف إيران وحزب الله وروسيا والصين، لكن السؤال هو:
<
p style=”text-align: right;”>من سيمنع سوريا من السقوط؟
———————–
* شاعر وباحث كردي. حاصل على دبلوم في علم الإجتماع وعلم النفس، من جامعة دمشق.