العباسة تعيد جدليتها
قراءة في الياذة محمود حسن الشعرية “العباسة”
. عمارة إبراهيم
الشاعر الحقيقي هو ابن حاله كما هو ابن جمال شاعريته، ولا يمكن أن يقاس الشعر الحقيقي بإيقاع حسابي يضع موت روح الشعر في موسيقا ثابتة لا تتحرك مع تحرك أفعال الحال إن وجدت، من دون القليل.
واللغة هي ماعون الشعر، أما الشعر ، الطعام الذي يتطلع إليه الإنسان وليس آخر، فعندما تتفوق اللغة “الماعون” علي فحوي ما تملكه بداخلها فيظهر جمال هذا “الماعون”, وأعتقد أن النص القرآني هو وحده الذي منح للغة جمالها،ولن يستطيع من في البشر علي مر الوجود أن يمنح اللغة منحة النص القرآني لها،ومن ثم توجب علي المبدعين أن يؤسسوا لجمال الفعل في اللغة
فهو الذي يمنح لها بعض قدرها،لكن القدر المتعاظم في جماليات الأفعال الدالة في المشاهد الإنسانية التي تبقيه كذكري وتأريخ وجمال، وما أروع أن يكون السياق فيه جلال الشعر ورقيه، وروحه التي تتطلع لكل الأزمنة وأماكنه،لينال منزلة جديدة تختلف عن منزلته في تاريخه العربي.
وما أحوج الشعر لمعطيات جمالية جديدة لا تجدها في غير الشاعر الموهوب الذي يبحث عن نفسه في مستجدات جمالية لنص شعري جديد،حتي تأخذ الشعرية العربية مكانتها التي أوقعوها في شراك الجمود الشعري وقد استنزف كل جماليات ماضيه بسبب العطب الذي لم يخرج من جلود السلف.
وما يقدمة الشاعر محمود حسن في نصوصه الجديدة”العباسة” هو جديد علي القصيدة الخليلية الملتزمة بنظم ثابت و إيقاع آلي غير فائر،حيث يقدم قصيدة لا تخالف العقيدة الخليلية غير في نسف أغوار نظمها
وعدم الارتباط بمواثيقها الفراهيدية ،وترك لدفقة حاله ونبضه الطاعن للعطب أن ترتقي أحواله في سرد شعري يقترب إلي بهرجة المسرح دون انفصال عن الشعرية بإيقاعها الخليلي ،لكن بجمالية تتفوق علي تراكم ما كتبوه وكان السبب الرئيس، في غياب المشهد الشعري العربي عن مثيله العالمي،أو لنقل :
أننا غبنا بسبب عراك دائم لم ينته حتي الآن بين فريق ينتمي لقصيدة النظم،وآخر ،ينتمي ويدافع عن قصيدة التفعيلة،وكذا فريق لقصيدة النثر،وقصيدة الشعر الحر الذي لا يقف علي شيء سوي أحوال الكتابة النابضة التي يرسم أغوار حلتها الكلية أفعالها المتدفقة، وإيقاعها الشاهد في بناء لا يحكمه غير شاعر موهوب،يملك تفرد أدواته.
والمتذوق بحرفية الكتابة او النقد عليه ان يثمن مثل هذا الصوت الشعري الذي لم يحط في ماعون آلي، ولم يستنجد بموسيقا واقفة عند حدود ترتيب الحرف، بل تعمق فعلها في شكل متطور، حافظ علي إيقاعه الخليلي وبرزت معه الأصوات الإيقاعية التي رتبتها إيقاعية الأفعال في مشاهدها التي لم تقف عند ثقافة واحدة لزمن واحد،أو مكان لفعل واحد،بل حافظت علي بيئة اللغة، ولم تقف في ماعون البيئة السالفة
ولا راهن فيها علي إيقاع يتباهي به بين من يرتبون الحروف في سياقات اللا وجود.
لتتجاور وتتجاوز مع من يرصدون أحوالهم في أشكال أخري، تتجاور ولا تزاحم،ولا تقصي.
يقول محمود حسن في الياذته الشعرية “العباسة” في مشاهد سرد لمسرحية تري بالأذن،تستنهضها أحوالنا التي تماست وتعايشت معها:
لو يدرِ الشعبُ المحبوسُ بِجُبِّ الدَّولةْ ،
والمُتسابقُ في القيدِ طليقاً ؛ لا تَتجاوزُ سُرعَتُهُ حجْلَهْ
لو يعلم ما نعلمهُ نحنُ عبيداً وإماءْ
لانْطَفَأَتْ في عينَيْهِ الهالةُ والهَيْبَةْ ،
وتَشَابَهَ ديباجُ الوالي والياقاتُ الزرقاءْ
كانَ تَقَدَّمَ للساقيةِ العاقرِ في ثِقَةٍ يَرْوي جَدْبَهْ
ما كانَ الوالي استأثَرَ بالنيلِ ودِجْلَةَ أو كان استَحْوَذَ دونَ رَعِيَّتِهْ خصْبَهْ
لكن
حينَ تآكلَ حَبْلُ الشعبِ السُرُّىْ
جَبُنَتُ أدْمِغَةٌ
ما كانَ لَدَى يُوسُفَ إلّا أنْ يَسْتَلْطِفَ جُبَّهْ
عندما تتوغل الأفعال الإنسانية في وجدان الشاعر،وتغوص في أعماق نفسه،لتصبح نسيجا حاليا يتوافق مع متطلبات ضميره الإنساني أو لا تتوافق،من البديهي أن يلملم أشلاء مساحاتها المنثورة في دمه،في حدود ربما كانت تمنح فيضها في قصيدة، أو ربما قصائد، أو ملحمة،أو ربما ملاحم،أو كانت إلياذة،أو مسرحية،مثل حالة “العباسة” هذه.
والكتابة الشعرية عندما يتعايش فيها الشاعر بفيض هذه الأحوال التي توغلت بأفعالها الدالة وأصبحت جزءا من أحواله مع كل التراكم الثقافي والمعرفي الذي توافق، وقامت باستدعاء ما عن لها من هذه الروافد الإنسانية ،لتتماهي عنده الشعرية التي أنتجت أو تنتج منتجها الشعري في سياقها الذي رسمته معالم الدهشة التي ترسمها الحالة الشعرية بعد اكتمالها ويجيء وقت أن يسطرها الشاعر حسب دفقاتها الشعرية.
كانت الياذة “العباسة “للشاعر المصري محمود حسن -بدءا من أول وهج لها، وهي ترسم في تشكيلها قلب شاعر توغل فيه ألم أحوال العباد، وكان شاهده مثال من واقع الحال العربي الذي تجسد في شحنته الشعرية المتواترة بكل استدعاءات الواقع العربي المكرر عبر تاريخه،وقد تفوق الشاعر علي واقع الشاعرية العربية، بما فيها حاله الشعري السابق عن حال “العباسة”،حيث استدعت ذاكرة المخزون الثقافي عنده،لمحة من دهشة وفوران السلطة أو الحكم عند العرب وحدهم،وكذا النتائج الكارثية التي تتحقق بسبب الكرسي الذي يديره فرد، وليس مؤسسات حاكمة ذات شؤون محكمة، تحكمها مصالح اليلاد،وليس أحوال ومزاجية الحاكم في دفقة أو دفقات شعرية توغلت في وجدان الشاعر
لتتضافر كل هذه الشحونات الإنسانية التي تعايش معها الشاعر لحظة بلحظة،ودفقة بدفقة، وترك لها فضاءات اللغة والإيقاع والاستدعاءات وأيضا البناء،كي تخرج من طاحونة الحياة التي تراكمت بداخله حتي وصلت إلي أقصي حدود الفيض الذي يتوالد بشحناته الشعرية التي تعمقت في فلسفة تحاكي واقع التاريخ العربي في مشاهد تظهر عورات السلطة والكرسي والحاكم.
وكان العقل العربي الحاضر في العباسة،يجاهد حتي يعيد كف الميزان المعوج في تراتيل المشاهد شديدة الوهج العقلاني الذي يسعي في تشخيص أمراض السلطة والكرسي والحاكم يقول:
“ما كنت لأحتمل الطوفان القادم يا ولدي، كي يجلس جعفرك الطفل علي عرش المنصور ” أبو جعفر”
لن أحرق دولتنا كي يكبر”
و المدهش في أحوال الدفقة التي لم تزل ترسل لنا صيحاتها عبر مشاهد متعددة تعيد للتأريخ العربي صيغته الصحيحة،وترسم للشعرية العربية فضاءات لها مستجدة حين تجد بناء كل عباسة يختلف في بنائه،فواحدة تجدها مسرحا منقولا من دون حوائط ديكور،وأخري تتعمق في سرد شعري ملفت،والثالثة ترسم بناء لها يختلف عن الرابعة او التاسعة أو الأخري ، حيث تستسلم لمعطيات أحوالها ويكون للفعل الذي يدير الأحوال سلطة الاستدعاءات التي تقدم لنا إلياذة شعرية ملكية خاصة لشاعرنا محمود حسن.
هذه الكتابة ذات الروح المتدفقة نغما،إيقاعا، تراتيل أحزان، صورا فاضحة للجمال في البناء، وفي الصور التي تحاكي واقعها بمستجدات غير قابلة من تكرار.
ذات مشاهد ترمي بك إلي واقع المعايشة وكأنك أنت، أنت القارئ من أطراف أحداثها، لماذا نحبها، وينقبض القلب لجمالها،وفتنتها، وألم اسقاطاتها.
لأنها كتابة شعر حقيقية،تتوغل في أعماق الدهشة،كما أنها تحاكي واقعا يحتاج إليها وإلي مثلها
ليكون للشعر العربي رسالته وفوران سطوته علي تصحيح الأوضاع السياسية أو الإجتماعية، تمنح البشر تفوق قيمهم الخاصة والعامة،ترتقي بالأفعال مناسك بوح العمل الجاد الذي يتحقق منه المساهمة في وجود عالم يسعي للجمال والحب والحق والعدالة.
كتابة نقد صحي لواقع عربي يحتاج إليها. يقول محمود حسن
في القصرِ خمورٌ ونساءٌ عاريةٌ ، وفُجورٌ ، وغناءْ
وسُجودٌ وقيامٌ وصيامٌ وقِراءةُ قُرْآنٍ وبُكاءْ
في القصرِ العِزَّةُ والذِّلَّةْ
وملابسُ مُتَّسِخاتٌ وأناقَةُ حُلَّةْ
في القصر شياطينٌ رُسلٌ وملائكةُ خُبثَاء
الشاعر هنا يرصد بكاميرا متحركة الصور والألوان أحوال كرسي الحاكم الذي لا تعنيه آلام شعوب، أو إقامة منابر عدل أو حقل خير،فقط العربدة التي تحط علي الدولة بمصائب حكمه هذا.
يقول:
لو أنَّكَ يا هارونُ ابنَ المهْدِيْ
لم تَفْتِنَ عقلكَ جاريةٌ من كِسْرى
ولَدَيْكَ زُبيدَةْ
ما سالتْ في القصرِ دماءْ
لو أنَّكَ يا جعفرُ لم تَفْتِنكَ امرأةٌ من ساداتٍ عربِيَّةْ
لو أنَّ العبَّاسةَ ظَلَّت عذراءْ
ما انهدَّ السدَّ ولا كَفَرَتَ بِلْقِيسُ ولا ذُبِحَتْ صنعاءْ
ويستمر الشاعر في لغته التي تعمقت بأفعالها وقد رسمت لنا ملامح الرومانسية التي يعشقها العربي في القصيدة والطرب وكل شيء يخرج من الوجدان ليحط في روح المتلقي
يقول:
آهٍ من عِطْركَ يا هارونُ ، ومن عينَيْكَ الماكِرَتين ، الحَانِيتنِ على قلبِ زُبيْدة
عيناكَ ، وما عيناكَ سوي بحرٍ ليسَ له شطُّ
الآنَ زُبيدةُ في قصركَ سَيِّدَةٌ ومليكةْ
صارت حُلمَ نساء الأرض المُمْتدَّةِ من هذا البحر الشَّرْقِيْ إلى الغَربِيْ
صارتْ شِعر
يقول أيضا محمود حسن:
تذبحني؟ لم أرو قبيل الذبح العطشا
ما أحسنت الذبح وما أحسنت وداعي
ما يشغلني الآن بظلمة سيفك
كيف تحول قلبك حتي
لم يغفر خطأ يمكن أن يغفر؟
* – يأخذ ضمير المتكلم مساره المعتاد محلقا في فضاء الألم فوق الأرض العربية،مخاطبا جمهوره في وتدية العباسة- التأريخ – ليستنزف ما تبقي من دمنا عبر تاريخنا النضالي الكبير في هدر الدم لعدونا الأول وهو “الأنا “، وكأن لا عدو لنا غيرنا، ولا دم رخيص غير دمنا، ولا مساحة أحزان يملكها قلب غير قلوبنا، وأرضنا .
لتنفجر شرايين الأرض وجعا سطرته “العباسة “في مجري شعري بديع، لملم بموسيقاه التي تتناسب تماما مع جنائزية الحال في أغوار اللغة المستخدمة كي نتعاطي لحظة تمثل مكان وزمانية الياذته ،كما هي تمثل أحوالنا الدموية التي لا تنتهي حتي وقتنا هذا،وقد بينها الشاعر في إسقاطات شعرية متعددة هنا داخل النص ، في بناء شعري رفيع رغم بساطة اللغة الشديدة وهي المستدعاة التي يسطرها الشاعر في تنوع ألعابه وخدعه في البناء،مثل تقديم الخبر، أو المفعول عن الفعل، او تنوع مشاهد الحدث بتنوع حشود الصور التي ألقت لجامها لقائد النص يروي بلغة السرد التي تفوقت بدراميتها وتنوع أنواع وآليات السرد عبر النص من بدايته وحتي نهايته مستفيدا من خبراته وموهبته في سياق شعري إنساني، ربما تستعيد منه أجيالنا القادمة الذهنية المسلوبة من ثقافة الدم التي تفحلت في كيان الحاكم العربي كي يؤسسوا في مساحات الأرض المنكوبة حياة مغايرة تمحو ثقافتنا وتراثنا الذي تحجر من دم العروبة الذي لم يتوقف.
اختتم بمقطع بديع راق للعباسة حتي تنهي به وجع الأمة
كنا سادة هذي الأرض ملوكا
ملكا يفني الراكب كي يبلغ آخره عمره
كنا الدولة والساسة والديوان الورقيا
أو لسنا سلمان الباحث عن ربه
وبلالا
وصهيبا
وكتابا عمريا
كنا كسري
ودخلنا في عقد الدولة والدستور العربي
فأنا
أنت
ونحن
وهم
هن
جميعا يا هارون مواطن
لا فرق الآن. … ولا عربي أو عجمي.
اقرأ/ى أيضا:طفلة فلسطينية تفوز بجائزة الشعر بتونس