عن قذائف اليورانيوم في سوريا: المستقبل المستنفذ!
أعلنت واشنطن أنها ضربت مناطق من سوريا بقذائف اليورانيوم المنضب عام 2015. ولكن أياً من جهات المعارضة أو من النظام لم يهتم بما جرى. والتأثير الأكيد لبقايا اليورانيوم المستنفذ والتعرض للمواد المشعة، من سرطان وعيوب خلقية وأمراض أخرى، يبدأ بالظهور تدريجياً هناك، كما حدث في مناطق عراقية مماثلة.
في 14 شباط/ فبراير 2017، أصدرت الولايات المتحدة الامريكية بياناً رسمياً يعلن استهدافها شاحنات نقل نفط تتبع لتنظيم داعش في مناطق دير الزور والحسكة (شرق وشمال شرق البلاد) بضربات جوية مستخدمةً قذائف اليورانيوم المستنفد (المنضّب). وأن ذلك حدث في خريف 2015.
وبقدر خطورة تلك التصريحات وقبلها القذائف، وضرورة استنفار الرأي العام، فإن أحداً لم يعرها أي اهتمام، إلى درجة أن بعض أهالي البو كمال استغربوا عما نتحدث.
دولياً، كانت روسيا أول من أثار الموضوع إعلامياً بشكل واسع، لغايات واضحة، بعد تحقيق نشرته مجلة Foreign Policy بالتعاون مع Air wars، نقل اعتراف الناطق بلسان القيادة المركزية الأميركية CENTCOM الميجر جوش جاكب أنه تم “إطلاق 5265 قذيفة من عيار 30 مم مضادة للدروع، تحتوي يورانيوم منضّب من طائرة A-10 ثابتة الجناحين تابعة للقوة الجوية يومي 16 و22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، تم ّفيها تدمير حوالي 350 شاحنة في الصحراء الشرقية للبلد”.
تناقض هذه التصريحات تصريحات سابقة للناطق باسم الائتلاف الدولي ICBUW جون مور قال فيها إن طائرات التحالف (وبضمنها طائرات الولايات المتحدة) لم ولن تستخدم ذخائر اليورانيوم المستنفذ في تنفيذ عمليات “العزم المتأصل” ضد داعش. كما أكد ممثل وزارة الدفاع الأميركية لموقع War is boring “أن طائرات A-10s المنتشرة في المنطقة لن تحصل على ذخائر مضادة للدروع تحتوي يورانيوم منضّب، لأن تنظيم داعش (في سوريا والعراق) لا يمتلك الدبابات التي صممت الذخيرة من أجل اختراق دروعها”.
أسباب استخدام اليورانيوم المستنفذ في هذه العملية تحديداً
الضربة الأولى بتاريخ 16 تشرين الثاني/ نوفمبر على رتل شاحنات وفقاً لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) تمت باستخدام مزيج من قذائف مدفعية (عيار 30 ملم) وصواريخ وقنابل موجهة، دمرت أكثر من 116 سيارة معظمها شاحنات (صهاريج) مدنية. وقد حظيت الضربات بدعم البنتاغون الذي نشر لقطات للشاحنات المدمّرة على الإنترنت مضيفاً في تصريحاته أنه لم يكن هناك مدنيين أثناء القصف لأن “منشورات أسقطت قبل مرور الشاحنات تحذر المدنيين من البقاء في منطقة العمليات”، وتحذر في الوقت نفسه سائقي الشاحنات من الفرار، إلا أن جهات محلية ذكرت لنا أن هناك إصابات بين المدنيين لم يعلن عنها.
حدثت هذه العملية قرب مدينة البو كمال على بعد عدة كيلومترات من الحدود العراقية، وفي الساعة الخامسة صباحاً، علماً أن جانبي الحدود وقتها كانا تحت سيطرة تنظيم داعش، ولم تحدد القيادة المركزية ولا التحالف الدولي في تصريحاتهم مكان الضربات بالدقة. أما عملية يوم 22 تشرين الثاني/ نوفمبر فقد حدثت بين دير الزور والحسكة، شمال نهر الفرات، وتمّ فيها تدمير 283 شاحنة نقل نفط تابعة لداعش، وأيضاً دون تحديد لمكان العملية بدقة.
أُطلقت القذائف من منصة الطائرة A-10 المستخدمة في عمليات قتال داعش منذ العام 2014، ويمكن لهذه الطائرة إطلاق قذائف اليورانيوم إضافة إلى أنواع أخرى، منها قذائف شديدة الانفجار High Explosive Incendiary (HEI)، ولا يستطيع الطيار التمييز بين النوعين أو اختيار ماذا سيستخدم في عملية القصف، وبالتالي، يصعب فعلياً التأكد من كون رقم القذائف المعلن عنه صحيحاً من جهة، وفيما إذا كانت هناك ضربات سابقة أو لاحقة (سريّة) استخدم فيها هذا النوع دون إعلان أو تصريح من جهة ثانية.
قام التحالف، وفق التحقيق السابق، بتحليل أسباب استخدامه لهذا النوع قياساً بضربات مماثلة في العراق أو يوغسلافيا السابقة، وانتهى إلى أن “استخدام ذخيرة A-10 من اليورانيوم المستنفد ـ المثيرة للجدل ـ مبرراً”، وتمّ استخدامها “على أساس الميزة المتصورة ضد المركبات المدرعة”، ولكن القصف كان على شاحنات نقل عادية غير مصفحة، ويبدو أنه تم اتخاذ قرار أن هناك “حاجة لاستخدام اليورانيوم المستنفد” من أجل ضمان ما قال المتحدث باسم القيادة المركزية أنه “احتمال أكبر لتدمير الأهداف”.
طن ونصف من اليورانيوم المستنفذ في العراء
الضربة الأولى حصلت بـ 1490 قذيفة من اليورانيوم المستنفد ـ وهي تساوي 432 كيلوغرام من اليورانيوم المستنفد، أما الثانية فقد أُطلق فيها 3775 قذيفة أي حوالي 1095 كغم من اليورانيوم المستنفد (تزن زجاجة الماء سعة ليتر واحد 19 كيلوغراماً من اليورانيوم). كما استخدمت القنابل والصواريخ والقذائف في الهجومين اللذين دمرا على التوالي 116 و283 صهريج وقود، حسب القيادة المركزية الأمريكية.
في وقت لاحق، أوضح المتحدث نفسه باسم القيادة المركزية الأمريكية لصحيفة واشنطن بوست: “أرادت القوات الأمريكية التأكد أن الشاحنات أصبحت غير صالحة نهائياً” وأن قذائف اليورانيوم المستنفد، بدلاً من ضربات HEI، كانت أفضل طريقة لتحقيق ذلك”. غير أن شركة “جنرال دايناميكس”، وهي إحدى الشركات المصنعة للذخيرة 30 ملم للطائرات A-10، تقول إن القذائف شديدة الانفجار (HEI) “تسبب آثاراً حارقة عند استخدامها ضد الأفراد والشاحنات ومخازن الذخيرة والعديد من الأهداف الأخرى”. وتحقق قذائف اليورانيوم المستنفد الأثر المطلوب ضد ناقلات الوقود، ولكن من المشكوك فيه إلى حد كبير ألاّ تحقق قذائف HEI هذه الأهداف أيضاً.
هل استخدمت الولايات المتحدة اليورانيوم المستنفذ (لديها 100 مليون طن على الأقل حسب أرقام وزارة الطاقة الأميركية) في مناطق أخرى في سوريا تقع تحت سيطرتها أو سيطرة التحالف الدولي، مثل الرقة؟ لا يمكن الجزم بالأمر ولا نفيه بالمطلق في ظل الحرب الدائرة في البلاد، إلا أن أنباءاً محلية نقلت أن عدداً من مواقع الجيش السوري التي تعرضت لقصف من قبل التحالف الدولي قد كان لتفجيرها وسرعة انتشار التفجير ولونه وبقاياه أثرٌ مشابه لتلك المواقع التي تعرضت لقصف بقذائف اليورانيوم المستنفذ، خاصة في مناطق محيط “التنف” (جنوب شرق البلاد). ولا يمكن التأكد من دقة هذا الكلام في غياب إمكانية تقصي واقع هذه المواقع حالياً، غير أن الأمر ليس مستبعداً، حيث رفض المتحدث نفسه “استبعاد استخدامه في المستقبل” في مناطق أخرى.
تحليل أسباب الضربتين
الزبون الرئيسي للنفط السوري المسروق من قبل تنظيم داعش كان شركة powertans التي يملكها وزير الطاقة التركي بيرات البيرق (وهو صهر أردوغان)، التي كانت تشتريه بـ5 دولار للبرميل وتقوم بنقله من سوريا وكردستان العراق (ومن إيران أيضاً) وبيعه لتركيا أو لإسرائيل بـ15 دولار للبرميل، بينما سعر البرميل في السوق الدولية 70 دولاراً.
بالعودة إلى وقت القصف، أي تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، والتدقيق في أحوال العلاقات التركية – الأميركية أو التركية ـ الغربية، فإن التوتر كان في أقصاه بين مختلف هذه الأطراف على خلفية الملف السوري والدور التركي الكبير في دعم عبور تنظيم داعش الحدود السورية ـ التركية، وتحوّل تركيا إلى قاعدة خلفية لتزويد داعش بالمقاتلين. بالطبع، هذا في ظاهر الأشياء، أما في باطنها فإن الولايات المتحدة التي سوّت مدينة الرقة بالأرض، أرادت أن توجه عدة رسائل للأتراك، على رأسها أن موضوع النفط السوري ليس للابتزاز، وأن الأميركيين وحدهم من يقرر مصير النفط (المسروق وغير المسروق). ولم يكن الهدف “تجفيف منابع داعش المالية”.
كانت داعش حتى أيلول/ سبتمبر 2014 تبيع 210 صهاريج يومياً من النفط لتركيا وأماكن أخرى بقيمة بين 1-2 مليون دولار، واستمرت في عمليات البيع لعام كامل دون أن يثير ذلك غضب أحد. وكانت الحكومة السورية تشتري منه عبر تجار محليين لمواجهة انخفاض مستوى مخزونها من الوقود، وفي 14 تشرين الأول/ اكتوبر 2014، قال السكرتير الصحافي للبيت الأبيض جوش إيرنست أن “تركيا يمكنها أن تلعب دوراً إيجابياً في عمليات وقف بيع النفط”. ولكن شركة بيرات البيرق التي تؤمن الصهاريج (لوحاتها تركية وعراقية وسورية) والنقل، رفضت الخضوع للطلب الأميركي، فكانت تلك الضربات للقول بأن هناك من يراقب ما يجري بدقة، وهو أمر استغلته روسيا لاحقاً عندما قصفت رتلاً آخر كان يتجه إلى تركيا متهمةً واشنطن بأن الرتل مر أولاً في مناطق سيطرتها. لقد كانت المسألة واضحة: إذا كان لكم ـ للأتراك ـ أن تلعبوا بملف النفط فنحن لكم “بالمرصاد”.
حال هذه المواقع بعد عام على القصف
• أولاً: منطقة البو كمال
انتهت سيطرة تنظيم داعش على منطقة البو كمال مع نهاية العام 2017، بدخول الجيش السوري إليها وصولاً إلى الحدود حيث التقى بالقوات العراقية. ولم تقدّم القوات الأميركية ولا قوات التحالف أي خريطة أو معلومات عن المنطقة المصابة لا للسوريين ولا للعراقيين ولا حتى لطرف ثالث، كما لم يطالبها أحد بذلك أيضاً.
تقع المنطقة المقصوفة في الجهة الغربية، على أطراف مدينة “البو كمال”، على بعد أقل من كيلومتر واحد من منطقة “السكرية”، وهي كما يبدو نقطة تجمع للصهاريج. أي أن الضربة قصدت أهداف ثابتة، ونقطة التجمع تلك معروفة لأهل المنطقة. إضافة إلى ذلك، فهي تقع على أقل من كيلومتر أيضاً عن نهر الفرات، وهناك أراض زراعية تبعد عن المنطقة بضعة كيلومترات.
حسب الشهادات المستخلصة من بعض أهالي الناحية، فالمنطقة المصابة لم يتم تسييجها ولا عزلها عن محيطها، كما لم تقم أي جهة بوضع شاخصات دلالة على احتوائها على مواد مشعة، حتى أن بعضاً من الأهالي استغرب أن يكون هناك أي منطقة مضروبة من قبل التحالف، إلا أن شخصاً عرف عن نفسه أنه من نشطاء البو كمال أكد وقوع الضربة مشيراً لوجود وثائق تتضمن صوراً ومقاطع فيديو، مضيفاً أن هناك عدد من المدنيين قضوا على إثر الضربة.
قصة تهريب النفط إلى تركيا ليست وليدة الأزمة السورية، فقد كان ذلك يجري منذ زمن بعيد عبر تجار محليين وعبر هذا الطريق نفسه المعروف باسم “طريق التهريب”. المنطقة التي قصفت هي نقطة تجمع، وبالتالي فإن احتمال مرور قوات عسكرية منها أمرٌ مرجح كثيراً. وفي غياب أي اهتمام لدى أي طرف فإن تعرض المقاتلين بمختلف فئاتهم للإشعاع شبه مؤكد، ولم يكن هناك إمكانية دقيقة لتحديد أي من الفرق المتقاتلة قد عبرت المكان، وفي غياب أجهزة قياس راديوية لدى أي طرف، فإن مسألة إصابة أي من المقاتلين أمرٌ وارد هو الآخر.
إنّ حساباً أولياً يوضح أن إجمالي المساحة التي تعرضت للقصف في منطقة البو كمال يبلغ ستة دونمات دون حساب امتداد الانفجار الجانبي أو الطولاني، وفي حال إضافة هذه المساحات غير المعروف مدى اتساعها فإن المساحة ستتضاعف ثلاث مرات على الأقل، وهو الواضح فعلاً من الفيديو المنشور.
المنطقة ملوّثة بنسبة 7.14 في المئة (حسابياً) أي بزيادة على النسبة المسموح بتعرض الإنسان لها مرة واحدة في العام (0.02 في المئة) بمقدار 714 مرة، متكررة إذا كانت المنطقة مفتوحة للاستخدام ولم تسيج، وهو حالها. وإذا ما وزعنا القذائف (1490) على المساحة الإجمالية، فإن كل 4 أمتار مربعة نصيبها قذيفة واحدة، وبالتالي نصيب كل شاحنة 12 قذيفة على الأقل (مساحة الشاحنة 50 متر مربع)، وهو رقم كبير جداً قياساً إلى الهدف نفسه، حيث تكفي قذيفة واحدة لتدميره كلياً، خاصة أن الشاحنات محملة بالنفط الخام، وسيكون الأثر التدميري مضاعفاً والتفاعل الحراري ـ الكيميائي عال جداً بين المكونات، منتجاً مجموعة ضخمة من المواد السمية أولها الغبار الذري.
• المنطقة الثانية: بين دير الزور والحسكة
المنطقة الثانية تقع شمال غربي البو كمال بين الميادين والطريق المؤدية إلى الشحيل، وهي الآن تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وتبلغ مساحتها (14.1 دونم)، ملوثة بنسبة 7.7 في المئة بزيادة 770 مرة عن المعدل المسموح، وهنا كان نصيب كل شاحنة من القذائف (3.7 قذيفة). وهذه المنطقة غير مأهولة بالسكان حسب شهادات بعض ناشطي دير الزور، إلا أن احتمال مرور القوات المتحاربة فيها وارد جداً نظراً لأنها منفذ إلى الحسكة. ولم يتم تسييج المنطقة ولا وضع أي شاخصة تحذير ولا أي أمر آخر. عدد الشاحنات التي قصفت في هذه المنطقة يفوق نظيرتها في البوكمال بالضعف تقريباً، ويتكتم التحالف على الموقع الدقيق للضربة، فقد أخبرت القيادة المركزية الأميركية صحيفة الواشنطن بوست أن “المواقع التي تم قصفها في تشرين الثاني / نوفمبر 2015 تم تحديدها كي يتم تنظيفها في المستقبل”، إلا أنه من المشكوك فيه أن تقوم الولايات المتحدة بتنظيفها في ظل الوضع الراهن في سوريا. حيث لا يوجد حالياً أي التزامات رسمية للقيام بعمليات التعقيم على أي مستخدم لليورانيوم المستنفذ أو الدولة المتأثرة به.
في وقت سابق، قال فيم زفيننبرغ، أحد الباحثين في معهد لأبحاث اليورانيوم (PAX): “بالنظر إلى طبيعة اليورانيوم المستنفد كمعدن ثقيل سام ومشع، والمخاوف التي أعرب عنها المدنيون السوريون سابقاً فمن المقلق للغاية أن تختار الولايات المتحدة استخدام اليورانيوم المنضب مرة أخرى”. مضيفاً: “يجب على الولايات المتحدة توفير جميع البيانات للمواقع المستهدفة والمساعدة التقنية لمنظمات إزالة الألغام والسلطات المحلية لضمان القيام بعمليات تنظيف سريعة لهذه النفايات المشعة منخفضة المستوى لمنع تعرض المدنيين السوريين”. إلا أه وبعد أربع سنوات، فهذا لم يحدث، مع الانتباه إلى أنه لا توجد علاقة معلنة رسمياً بين الحكومة السورية والولايات المتحدة.
تاريخ الجثث القاتلة من البوسنة إلى سوريا
استخدمت قذائف اليورانيوم المستنفذ لأول مرة في حرب تشرين/ أكتوبر ضد سلاح الدبابات المصرية (ت54، ت56) من قبل إسرائيل التي كانت الولايات المتحدة قد أمدتها بها، وأعادت إسرائيل استخدامها أثناء حرب لبنان 1982 (وفي حرب تموز 2006)، واستخدمه التحالف الدولي في كل من يوغسلافيا (1999) والبوسنة (1994-1995) وصربيا (1996) وكوسوفو (1999). وفي آلاف الهجمات خلال حرب الخليج الأولى والثانية، وكذلك في المعارك الأولى لغزو العراق عام 2003. واليوم هناك أكثر من ألف موقع في العراق يحتوي بقايا هذه القذائف. واستخدم في غزّة (عملية الرصاص المصبوب، 2008)، وأفغانستان (2003 وصاعداً)، وليبيا (2011)…
وإضافة إلى ما أعلنه البنتاغون عن استخدامه في سوريا مرتين، فإن أنباء أشارت إلى أن قصفاً إسرائيلياً لموقع “جمرايا” (قرب دمشق) في أيار/ مايو 2013، استخدمت فيه قذائف اليورانيوم المستنفذ، وهو ما ذكرته قناة روسيا اليوم في تقرير لها. وقد ذكرت تقارير أخرى ومشاهدات محلية أن الانفجار كان ضخماً جداً (“كرة نار هائلة”) استخدم فيها نوع جديد من القنابل. وعلى الأرجح، فإن قصفاً طال مواقع إيرانية ـ سورية مشتركة في ريف مدينة حماة العام الحالي، قد استخدم فيه هذا النوع نظراً لطبيعة الانفجار ولون النيران الناتجة عنه.
وتبيع الولايات المتحدة هذه القذائف منذ العام 1972 إلى آخرين، منهم السعودية والبحرين وتايوان وتايلند والكويت وإسرائيل وكوريا الجنوبية، كما ذكرت لوس أنجلس تايمز عام 1995.
وإلى جانب الولايات المتحدة وفرنسا وباكستان والصين وبريطانيا وهي أكثر الدول امتلاكاً لها، فإن روسيا تمتلكها هي الأخرى ضمن ترسانتها، وحسب الويكيبيديا فإن روسيا زوّدت دباباتها من طرازT-62 وما بعدها بهذا النوع من القذائف، أو أنه يمكنها إطلاق هذا النوع منه. ولم يحدث أن صرحت روسيا باستخدامها وهي إعلامياً تعارض ذلك. وحسب المعلومات المتوافرة، فإن شركة “روساتوم” الروسية (المملوكة للدولة) ذكرت أنها ستضيف نظاماً جديد اًعلى دبابة Armata الجديدة يحميها ويجعلها منيعة تماماً أمام قذائف اليورانيوم المستنفد.
يستمر في الإشعاع 4.5 مليار سنة!
اليورانيوم بالأصل معدن طبيعي لونه أبيض ويستعمل في صناعات متعددة أبرزها السلاح النووي، وينتج عن تخصيب اليورانيوم بقايا تُعرف باسم اليورانيوم المستنفذ أو المنضّب Depleted Uranium، وهي عملياً غير مجدية في المفاعلات النووية، وتمتلك البقايا قرابة 60 في المئة من القدرة الإشعاعية لليورانيوم الطبيعي، وتستمر في الإشعاع الذري لمدة طويلة جداً (4.5 مليار سنة)، وتتميز بقايا التخصيب المستعملة في صنع القذائف، أنها مواد سريعة الاشتعال ذات نفاذية عالية وأرخص من المواد المماثلة لها كسلاح مضاد للدروع، إضافة إلى استمرار تأثيرها السمي لوقت طويل على كل شيء.
خطورة هذا السلاح دعت المنظمات الأممية إلى طلب تحريم استخدامه مراراً وتكراراً، دون جدوى بسبب معارضة الدول المصنعة له وخاصة بريطانيا والولايات المتحدة، ورغم أن استخدامه يخالف الأعراف الدولية وينتهك مبدأ حسن النيّة في تنفيذ الالتزامات الدولية، ومبدأ عدم التعسف في استخدام الحق حتى في حالة الدفاع الشرعي عن النفس، إلا أنه قانونياً غير محظور (في المنطقة الرمادية كما يقال دولياً) بشكل واضح، وتمانع الدول المنتجة له إصدار تشريعات واضحة ومباشرة في تحريمه.
تأثيرُ هذا السلاح يختلف عن غيره من أنواع الأسلحة الفتاكة. ووفقاً لدراسة قامت بها جامعة Southern Maine ونشرتها الغارديان عام 2007 فإن تأثير اليورانيوم المستنفذ لا ينحصر فقط في ضحاياه، بل يمتد إلى ما بعد موتهم مستمراً في الهواء والتربة والماء وفي الجثث نفسها أو في بقاياها، وفي حين يؤدي التعرض للهواء الناتج عن تفجيراته إلى مزيد من المآسي، سواء تعرض الإنسان أو الحيوان أو النبات أو أي كائن حي لها عن طريق الاستنشاق أو البلع ( وفي مناطق بعيدة، إذ ينتقل الغبار الذري عبر الهواء آلاف الكيلومترات) أو عن طريق الجلد، فإن النتائج كارثية لمدة طويلة من الزمن، “وكالة البيئة الأميركية” (عدوّ ترامب اللدود) أقرت أن “الإشعاع عندما يدخل الجسم يصبح مميتاً”.
الناتج الأساسي لارتطام القذيفة بالهدف هو أوكسيد اليورانيوم، يذوب 43 في المئة منه في الضحية ـ الهدف، ويتحول الهدف نفسه إلى كائن مشع لزمن طويل. باقي الارتطام يبقى هو الأخر مشعاً، ويمكنه أن ينتقل عبر أي وسيط جوّي إلى مناطق أخرى أبعد من دائرة الانفجار الأساسية، وتصل مسافات الانتقال إلى أكثر من 52 ميلاً، عبر المطر أو الهواء أو الغذاء. وعند التعرض المباشر للهواء الناتج عن التفجير، فإن أشعة ألفا الناتجة عن الانفجار ستستقر في قلب الخلايا مؤدية إلى تفكك الأنسجة الحية ومنها شيفرات DNA وتخلخل عمليات الأيض (الطاقة الكيميائية) في الخلايا، وهذا التلف هو أحد مسببات السرطان، وأحد مسببات تخرّب الجهازين المناعي والعصبي للإنسان، مؤديا في الأجيال الجديدة (التالية للتعرض للإشعاع) إلى حدوث تشوهات في الرحم وفي الجينات.
في بقية الأنواع الحية، يبقى الغبار الذري (أوكسيد اليورانيوم) عالقاً في الهواء، حيث يمكن للريح نقله أو للمطر حمله في الغيوم إلى أن يتساقط على التربة أو على المسطحات المائية أو على أوراق الشجر. وتتحرك هذه الذرات إلى عمق التربة بالتدريج، سواء بقيت فيها أو وصلت إلى مستوى المياه الجوفية حيث تذوب متحولةً إلى صيغ كيميائية أخرى، فإن النباتات تمتصها، وبالتالي تصل إلى الإنسان أو الحيوان، وكل من يأكل من هذه النباتات سيكون معرّضاً للإصابة، وفي حالة الحيوانات فإن لحومها ومنتجاتها من حليب ومشتقاته ستكون ملوثة هي الأخرى.
تأثير اليورانيوم المستنفذ في المنطقة
من الواضح أنه بعد سنوات على ضربات الشرق السوري فإن أياً من الجهات المعنية لم تقم بأي إجراء لحصر أو منع توسع تأثير بقايا اليورانيوم المستنفذ هناك ولا حتى منع الأهالي من المرور في تلك المناطق وتسييجها بسياج عادي وهي التي تعرف بكثافة حركة رعاة الأغنام فيها بين العراق وسوريا.
روسيا التي أثارت الموضوع لم تقم، هي الأخرى، بأي إجراء فعلي يخص تلك المنطقة. وهي وحدها في الحالة السورية القادرة على ذلك، وخاصة في ظل تواجد جزء من قواتها العسكرية هناك، إلا أنه كان واضحاً أن كشف القضية كان بهدف تسجيل نقاط على العدوان الأميركي والدولي، مقابل ما تفعله هي في سوريا. أما الحكومة السورية فهي على الأرجح آخر من يعلم بما جرى هناك، ولم تقم بأي إجراء، ولو بشكل رمزي، مثل تكليف محامين برفع قضية على قوات التحالف الدولي.
التأثير الأكيد لبقايا اليورانيوم المستنفذ ستبدأ بالظهور تدريجياً هناك، كما حدث في مناطق عراقية مماثلة. فسوريا، والعراق قبلها، تشهدان زيادة كبيرة في أعداد المصابين بالسرطان والتشوهات الخلقية، ويحدث ذلك في عموم البلد وفق إحصاءات صادرة عن مشافي متخصصة كمشافي البيروني والمواساة في دمشق، ومشفى اللاذقية للأمراض السرطانية أيضاً، والنسبة الحالية هي قريبة من 2 بالألف، أي بزيادة عن النسب العالمية.
ماذا عن المرة القادمة؟
تقوم الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية وتركيا بأنشطتها العسكرية (والأمنية والاقتصادية) في سوريا منتهكةً القانون الدولي والأميركي وبدون أي تفويض من أي جهة، سواء ضد داعش فيما مضى أو ضد الجيش السوري لاحقاً. ولم تسمح الأمم المتحدة باستخدام القوة العسكرية في انتهاك سيادة سوريا.
من الواضح أن القوة هنا هي التي تتكلم، ولا يمكن بالتالي للمدنيين السوريين الاحتجاج إلا عبر قنوات دولية ذات تأثير كاف (محكمة لاهاي الدولية مثلاً)، وكلما تقادم العهد فإن احتمال القيام بأي إجراء يتضاءل ويصبح أقل فاعلية. وفي المنطقة التي ضُربت فإن أي من جهات المعارضة أو النظام لم تهتم بما جرى، وسيضطر المواطنون السوريون إلى تحمل مخاطر متزايدة من السرطان والعيوب الخلقية والأمراض الأخرى المرتبطة بالتعرض للمواد المشعة. وهكذا فإن الضرر الذي يلحق بالأراضي السورية سيستمر لفترة طويلة بعد وفاة أي شخص متورط في الأعمال العدائية الحالية.
في المستقبل، فالمتوقع في ظل التفاهمات الدولية، أن يبقى النظام الحالي في دمشق لفترة قادمة، وبالتالي، فإن إجراء تقييم من هذا النوع يبدو مستبعداً للغاية، وهناك احتمال في حال تصعيد الموضوع أن يتم إزالة الشظايا من المنطقة في سياق إزالة الألغام بعد انتهاء الحرب. أما معالجة التربة الملوثة في المواقع فهذا ما لا يعرف مصيره، وسيكون افتراضياً على روسيا القيام بالتنظيف أو توفير المساعدة المطلوبة لعناصر سورية، وهو على الأرجح ما لن يحدث ما لم يكن هناك توظيف سياسي للمسألة.
حتى الآن لم يتم تفكيك الشاحنات المضروبة وتقطيعها أو سحبها لتحويلها إلى خردة، نظراً للظروف السائدة في الجوار، وهي لا شك “ثروة” مغرية لأناس فقراء عموماً في المنطقة، مما يعرض الناس لجسيمات اليورانيوم المستنفد في كل مرحلة من مراحل التفكيك والسرقة. أياً كانت نتيجة الحرب، فإن تلوث اليورانيوم المستنفد هو الآن أحد أشكال الأضرار البيئية والمخلفات السمية للحرب، التي يتسبب بها أو يفاقمها النزاع. وعندما تنتهي الحرب، من غير المحتمل أن تكون البيئة ذات أولوية بالنسبة لأي شخص، سواء أكان متبرعاً أم سلطات جديدة، كما أن المجتمعات والبيئة في سوريا هي من سيدفع مختلف التكاليف. ويلزم بصورة عاجلة الالتزام بإدارة تلوث اليورانيوم المستنفد في فترة ما بعد الصراع – ولكن حتى الآن لم يسعَ المجتمع الدولي إلى تحقيق ذلك، ولن يفعل، وتجربة العراق تؤكد ذلك.
المصدر: السفير العربي