سلطة الممارسة الإبداعية الاجتماعية
رغم مماراسات الهيمنة المركبة والمعقدة والمتلاحقة التى تمارسها كافة الأنظمة والسلطة الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية والرأسمالية ووصولا إلى درجة الممارسات القمعية والاحتكارية والمتعالية، استطاعت العقلية المصرية أن تبقى الوجود الإنسانى المصرى فى مواجهة هذا الممارسات والتغلب على هيمنة أطر التقليد والانغلاق بكافة تنوعاتها، وتمييزت العقلية المصرية بسلوكياتها العميقة والممتدة فى اللاوعى الاجتماعى والجمعى أن تحافظ من خلال قدرتها الإبداعية فى مواجهة القمع والقهر والتسلط ولم تكن الأمثلة الشعبية إلا نوعا من إبداع هذه الممارسة الاجتماعية الشعبية والجماعية والفردية وروحها النقدية والمقاومة والمبدعة ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
“عين الحر ميزان، ان طال الليل على قد ما طال لابد من طلوع الفجر، اللىّ يسرق البيضة يسرق الجمل، لا تأمن الأمير إذا غشك لوزير، من أكل مرقة السلطان احترقت شفتاه ولو بعد حين، يبنى قصرا ويهدم مصرا، الحر حر لو مسه الضر، غراب قال : الله حق .. قال بقى نباش الخرا واعظ، على عينك يا تاجر، دار الظالم خراب ولو بعد حي، مجنون وأعطى دستور، ديار مصر خيرها لغريبها، سوق الفسوق قايم، كلام لين وظلم بين، اهتك ستور الشك بالسؤال، يا والى لا تجور .. الولاية لا تدوم، اللى عاجبه من الكحل يتكحل و اللى مش عاجبه من البلد يرحل، اللى ما يشوف من الغربال يبقى أعمى، اللى محتاجه بيتك محرم على الجامع، قال ادخل الزربية نقى لك كلب قال كلهم كلاب ولاد كلاب، اللىّ يسرق البيضة يسرق الجمل، الجعان يقطع الحبل والعطشان يكسر الحوض، الرجم بالطوب و لا الهروب، شعب تجمعه ندهه و تفرقه عصاية، كل شنب و له مقص، شغته و لحمه و ما غرب إلا احنا، لو كان القاضى ينصف الشاكى ما كان الشاكى رجع باكي، المال السايب يعلم السرقة، يا ما فى السجن مظاليم، يخلق من ضهر العالم فاسد، البندقية فيها شيطان و يا فرعون، إيش فرعنك؟ قال: ملقيتش حد يقف يصدني و حاميها حراميها وقالوا للحرامي أحلف، قال جالك الفرج و سلموا القط مفتاح الكرار ونوم الظالم عبادة و بعد نومه مع الجديان بقى له مطل على الجيران”.
واعتبر الباحثين كثيرا من الأمثلة الشعبية تعبيرا فقط عن الشخصية المصرية الانهزامية والمنسحقة والأنانية المفرطة والقهر والإذلال والمذلة والخضوع للمحتل الجنبى، إلا أنها كانت تعبيرا شديدا وساخرا وانتقادا للذات والآنا وللآخر وللواقع المصرى سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وعلى سبيل المثال:
“إن كان ليك حاجة عند الكلب، قوله يا سيدي، والميه متطلعش في العالي، اللي انكتب على الجبين لازم تشوفه العين، والمصري حلنجي وفهلوي وياكلها ولعة، وجت الحزينة تفرح ملقتلهاش مطرح و المتعوس متعوس حتى لو علقوا في رقبته فانوس و يا قلبي يا كتاكت يا ما أنت شايل وساكت و القرعة تتباهى بشعر بنت أختها و زي القرع، يمد لبرة والإيد البطالة نجسة و اللي يحسب الحسابات في الهنا يبات و العشرة متهونش إلا على ولاد الحرام و جنة من غير ناس تنداس و الجار قبل الدار وإن شفت الفقير بيجري اعرف أنه بيقضي حاجة للغني و إيه اللي رماك على المر قال اللي أمر منه”.
ولتنطلق هذه الأمثال من حالتها سواء فردية ذاتية أو جماعية ومع تطوراتها وتعديلاتها عبر العصور والأيام والأحداث والمواقف والتحولات لتجسد الرؤية المجتمعية فى مواجهة الحياة. وشكلت إبداعية الممارسة الاجتماعية المصرية ومهما كانت قوى القهر ،نوعا من الإبداع ليس فحسب بالتعبير ولكن بالمقدرة الابتكارية المواجهة لتصاعد فاعليات السلطة واستلابها لمقدراته عبر العصور المقدرة على التواصل والمواصلة واستمرارية الوجود والبقاء والحياة.
وليس أدل على ذلك على سبيل المثال لا الحصر، إلا الأكلات الشعبية التى استطاع بها أن يواجه بها الفقر والجوع والقهر الاقتصادى، ومثل أكلات “البسيسة” والــ”أبورى” المتعددة والمتنوعة والمتكونة من الخبز المنزلى أو غبر المنزلى، والسكر والسمن أو الحوادق وبعملية إعداد بسيطة غير معقدة، وكذلك الجبنة القديمة المعروفة بــ “المش ” وتنوع طبخ الصنف الواحد بأكثر من طريقة إعداد وبما يغيير من طعمه مثل الفول ومع طرق التخزين الشعبية، وحيث واجه بهذا التنوع الحرمان بسبب إحادية الصنف والندرة والحرمان من المخبوزات المكلفة ومخبوزات الطبقات الغنية والمعقدة، وبما يحقق له الرضى والسعادة والمقدرة على تحقيق الذات ومقاومة الحرمان وتحدى الفقر والحاجة والتهديد بالمحاصرة والمنع والحصار ويحقق له الأمان والتأمين، ورغم تطورات الواقع الاجتماعى وتأثير التطورات على أساليب وأنماط الحياة الاجتماعية إلا أن المجتمع المصرى حافظ بقوة وفى إطار ديناميات التطور على امتلاكه لسلطة الممارسة الإبداعية الاجتماعية كماهية تدعم وجوده وحياته وشخصيته فى مواجهة سلطات القهر والسيطرة والعزلة والتغييب والماضوية النمطية وتعقيداتها ولنرى الإنسان المصرى الشعبى ــ على سبيل المثال ــ يفترش شواطىء البحر والنهر والترعة والغيط والقرى والعزب والمدن والحدائق العامة والشوارع الكبرى والحوارى والأرصفة ، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ووسطا وليلا ونهارا وفى مناسباته العامة وفى غير أوقات هذه المناسبات وبشكل يومي وبكل مماراساته المتنوعة والمتعددة لإعلان وجود الأمة المصرية التى تتمثل فى ممارسات حياته وصحيانه ووجوده ومقاومته وتحديه لنفى إندثاره وذوابانه وذوابان خصوصيته المقاومة والإبداعية وموته الذى غالبا ما يعلنه العديد من النخب الحاكمة والمثقفة بأنه لم يعد هناك وجودا إلا وجودهم واعتبار ان هذه الممارسات الشعبية نوعا من التردى والتخلف الاجتماعى والماورائية الاجتماعية والثقافية والقيمية المتخلفة.