ليس سرا أن الصين تطمح تحت قيادة الرئيس شي لدور قيادي عالمي لكنه يبدو متسرعا بتهور، نما أدى لارتكاب أخطاء كارثية.
طموحات الصين في الزعامة العالمية مشروعة إلا أن السعي للزعامة يجب أن يوفر نموذجا يتطلع إليه بقية العالم، شعوبا وحكومات.
كانت تجربة مواجهة كورونا كفيلة بهز ثقة شعوب العالم، وثقة أغلب الصينيين فى كفاءة نظامهم السياسى الذى أصبح معتمدا على تفضيلات شخص واحد هو الرئيس شى.
أخطاء التعامل مع كورونا عرقلت التنمية الصينية بصورة لم يتوقعها الصينيون أنفسهم ممن عاشوا تجربة إغلاقات قاسية وغير إنسانية سيدفعون ثمنها لأشهر وسنوات.
* * *
بقلم: محمد المنشاوي
قبل عامين، وفى بدايات انتشار تفشى فيروس كوفيد ــ 19 فى أبريل 2020، نشر المفكر كيشور محبوبانى، Kishore Mahbubani، وهو دبلوماسى سنغافورى رفيع سابق، وخبير حاليا بجامعة سنغافورة الوطنية، كتابا هاما رسم خلاله مسار وسبيل تحدى الصين لتفوق الولايات المتحدة العالمى.
وجاء عنوان الكتاب: «هل انتصرت الصين؟ التحدى الصينى للهيمنة الأمريكية»، لافتا للأنظار، إلى أن محتواه كان أكثر من محاولة للترويج لنموذج الصين فى الحكم والتنمية، إذ ذهب ليبشر بأفول الهيمنة العالمية، وبالنظام الذى أسسته واشنطن عقب الحرب العالمية الثانية، سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
وأثار الكتاب، وغيره من الأفكار التى عبرت عن بدء أفول الهيمنة الغربية لصالح الهيمنة الشرقية متمثلة فى الصين وربما الهند، الكثير من القلق فى الدوائر الفكرية الغربية، وبث الشكوك بين الكثير من صانعى القرار فى واشنطن فى إمكانيات دولتهم وقدرتها التى يعتبرونها استثناء.
إلا أن تجربة فيروس كورونا، والتى لم تنتهِ فصولها بعد، عكست بدقة القدرات الحقيقية التى تتمتع كلتا الدولتين فى المنافسة الجيوسياسية بينهما، وهى منافسة فاقمتها أزمة تفشى وانتشار الفيروس، وانتهت لصالح النموذج الغربى فى التعامل مع الأزمة غير المسبوقة.
جادل محبوبانى بأن الولايات المتحدة هى من أطلقت منافسة مع الصين، واتهم الإدارات الأمريكية المتعاقبة بتجاهل النصيحة التى قدمها الحكيم الدبلوماسى الأمريكى جورج كينان خلال الحرب الباردة، بضرورة المحافظة على الحيوية الأمريكية الداخلية، وأن تكسب الأصدقاء فى جميع أنحاء العالم، ولا تهين خصمها، وأن تكون متواضعة.
ووفقا لمحبوبانى، فإن التنافس الاستراتيجى بين الصين القوة الصاعدة والولايات المتحدة قوة الوضع الراهن قد اندلع بسبب الأخطاء والمفاهيم الخاطئة وسوء الفهم من كلا الجانبين. فأولا، ارتكبت الصين خطأ استراتيجيا فادحا عندما نفرت مجتمع رجال الشركات الأمريكى، جزئيا من خلال النقل القسرى للملكية الفكرية والسرقة والاختراقات السيبرانية.
فى حين أعتبر محبوبانى أن أمريكا ارتكبت خطأ استراتيجيا أكبر، وهو إطلاق منافستها الجيوسياسية مع الصين دون أن يكون لديها استراتيجية شاملة طويلة الأجل حول كيفية التعامل مع بلد مثل الصين، وهو أمر عبر محبوبانى عن أمله أن تصححه إدارة جو بايدن، وهو ما لم يحدث.
*
وينظر إلى عسكرة الصين لبحر الصين الجنوبى على نطاق واسع على أنها دليل على تراجع الصين عن وعودها بعدم توسع الصين، وهو ما قوض ثقة جيران الصين والدول الغربية فى الصين. وفى رده على هذه الحجة، يقول محبوبانى إن السلوك الصينى جاء ردا على تصعيد واشنطن أثناء حكم باراك أوباما من تكثيف البحرية الأمريكية لدورياتها فى المنطقة، وهو ما دفع الصين عندها فقط إلى الرد بعسكرة بحر الصين الجنوبى.
وعدد محبوبانى سلبيات النموذج الأمريكى، والتى لا يجهلها أحد خارج أو داخل الولايات المتحدة، مثل عدم المساواة المتفشى، وأرقام المساجين المرتفعة، وغزوات واشنطن الحمقاء حول العالم، وموقفها الانتقائى تجاه الالتزامات الدولية. ولكن محبوبانى عندما يتعلق الأمر بالصين، فإنه لا يرى إلا كل ما هو جميل وواعد.
فضّل محبوبانى تجاهل مشكلات النسيج الاجتماعى والعرقى الصينى، وألقى قليلا من الاهتمام بالتغييرات الديموغرافية المقلقة التى بدأت تلوح فى الأفق فى الصين وهى تتصارع مع شيخوخة السكان، أو فقاعة العقارات العملاقة خالية السكان.
دافع محبوبانى بحماس عن الحكم الاستبدادى فى الصين، وهو يرى أن الحكومة الصينية ربما تكون الأكثر جدارة فى العالم، وبالتأكيد الأكثر نجاحا فى تاريخ الصين الطويل. ويرى أن البديل أمام الشعب الصينى هو الفوضى، لذا فإن الحكم المركزى القوى هو الطريقة الأكثر فعالية للحفاظ على تماسك البلاد.
وروج محبوبانى للقيم الصينية مقابل القيم الأمريكية، ولم يتطرق للانتهاكات الواسعة الموثقة من فرق تحقيق مستقلة تابعة للأمم المتحدة فى إقليم شينجيانغ الذى تسكنه أقلية مسلمة، أو أقاليم التبت، ناهيك عن قمع الحريات فى هونج كونج والتهديد المستمر بغزو تايوان.
وأكد محبوبانى أن الاقتصاد الأمريكى ينزلق حتما إلى المرتبة الثانية عالميا، لكنه لا يذكر سوى القليل من التحديات العديدة التى تواجه الاقتصاد الصينى، مثل الديون وشيخوخة السكان وضعف نمو الإنتاجية.
ويزعم أن الصين أكثر رأسمالية من أمريكا، على الرغم من أن الرئيس شى جين بينج يدفع الاقتصاد نحو المزيد من رأسمالية الدولة، ويضيق الخناق على رجال الأعمال الأكثر نجاحا فى البلاد.
واليوم أصبحت الصين مندمجة بشكل كبير فى الاقتصاد العالمى وتقوم بتجارة مع بقية العالم أكثر مما تفعل الولايات المتحدة. لذلك إذا حاولت الولايات المتحدة الانفصال عن الاقتصاد الصينى، فقد تنفصل فعليا عن الكثير من بقية العالم.
وحاليا، تمتلك الولايات المتحدة أكبر اقتصاد فى العالم حتى الآن بـ 23 تريليون دولار فى الناتج المحلى الإجمالى لعام 2022 وفقا لبيانات البنك الدولى، فى حين أن الصين لديها ثانى أكبر ناتج محلى إجمالى عند 18 تريليون دولار.
ودفعت الإغلاقات وتبعات فيروس كوفيد السلبية على الاقتصاد الصينى لفرملة سعى الصين لتصبح الاقتصاد الأول فى العالم، ويشكك كثيرون فى إمكانية حدوث ذلك على الإطلاق، وأن الصين قد وصلت قمتها بالفعل.
*
ليس سرا أن الصين تطمح تحت قيادة الرئيس شى جين بينغ إلى دور قيادي عالمي، إلا أنه يبدو متسرعا بشكل متهور، وهو ما أدى لارتكاب أخطاء كارثية فى التعامل مع فيروس كورونا، وبالتالى تسببت تلك الأخطاء فى فرملة عجلة التنمية الصينية بصورة لم يتوقعها حتى الصينيون أنفسهم ممن عاشوا تجربة إغلاقات قاسية وغير إنسانية يدفعون ثمنها حتى الآن، وربما لأشهر وسنوات قادمة.
وتبقى طموحات الصين فى الزعامة العالمية مشروعة بلا شك، إلا أن السعي للزعامة يجب أن يوفر نموذجا يتطلع إليه بقية العالم، شعوبا وحكومات، وكانت تجربة مواجهة فيروس كورونا، كفيلة بهز ثقة شعوب العالم، وثقة أغلب الصينيين فى كفاءة نظامهم السياسى الذى أصبح معتمدا على تفضيلات شخص واحد هو شخص الرئيس شى جين بينج.
فى النهاية، أنصح أى شخص لديه اهتمام جاد بالصين، أو مستقبلها الجيوسياسى، بقراءة كتب أخرى حول مستقبل الصين، بعيدا عن كتاب الدبلوماسى السنغافورى.
*محمد المنشاوي كاتب صحفي في الشؤون الأمريكية من واشنطن
المصدر: الشروق – القاهرة
موضوعات تهمك: