الأبواب ليست مقفلة، وهناك نافذة ضوء مفتوحة، فإذا لم تكن موجودة علينا اختراعها.
حلت الفوضى محل قيم العلم والدرس والمعاناة اليومية لاكتساب كفايات ومهارات تفتح أبواب المستقبل.
غرقت مجتمعات في عملية عسكرة بفعل الانقسام السياسي الحاد، والمجتمع يدفع الثمن من دمائه وماله ومستقبل بنيه.
الانقسام واستعصاء الحلول، قاد لإحلال قيم السلاح والبطش والقوة العسكرية والمليشياوية بما تتطلبه من فوضى وتشبيح وسطوة وهدر الثروات وتدمير العمران والخدمات.
دول منكوبة تملك مئات الجامعات ومراكز البحث وألوف الخبراء الراغبين بالعودة عندما يرون تقديراً لجهودهم ووجودهم بمناخ الديمقراطية واحترام حقوق الانسان.
المنطقة العربية ليست “الربع الخالي” من الكفاءات والمحاولات الجادة لتقييم المعطيات ووضع المشاريع والحلول لمعالجة أعطاب تعوق التقدم نحو المستقبل المرجو.
* * *
بقلم: د. زهير هواري
لا يمكن وضع الدول العربية جميعاً في سلة واحدة، إذ إن عدم التساوي لا يتحدد بالثروات البشرية والمادية وكيفية الإفادة منها وتوظيفها، بما يقود إلى إطلاق نهضة متجددة لمجتمعات تعاني من أزمات متراكمة.
فالأوضاع تتباين أحياناً بين أجزاء الدولة الواحدة، بين المدن والأرياف، وبين فئات المجتمع ودرجة ثقافة كل منها، وما تحمله من دافعية للتعلم، فكيف بنا ونحن نتناول هذه الفضاءات الواسعة بظروفها، وأوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والبشرية والتنموية والثقافية؟
وعليه، سيجري التركيز على الدول التي تعاني من منوعات الفوضى والاضطراب البنيوي، وما يحصده التعليم فيها من معضلات تستعصي على الحلول والمعالجة، باعتبار هذه المجتمعات هي الأشد معاناة من سواها.
هنا يتحدد العامل المقرر بالاستقرار السياسي والكياني والدولتي المؤسساتي، ولا يعود لعامل توافر الثروة النفطية التأثير الحاسم على الصعيد التنموي المطلوب، رغم ما يمكن قوله حول نماذج التنمية المستوردة، كقوالب جاهزة من الدول والمجتمعات المتقدمة.
قوالب وتجهيزات للاستهلاك، ولا تتمتع بالمنفعة الكاملة والديمومة، كي تصبح جزءاً من التفاعل والتجاوز الحضاري، وليست مجرد مستهلكات تبطل الجدوى منها بعد عام أو خلال سنوات قليلة.
فمثلاً، ليبيا والعراق دولتان نفطيتان أساسيتان على صعيد الإنتاج العالمي، وما يدره على كل منهما من موارد، بينما أوضاعهما التربوية والتعليمية والتنموية والخدماتية عموماً في الحضيض.
بعض الأسباب جذورها تعود إلى عقود بعيدة من التخلف عن السير بركاب الحضارة والتقدم، وبعضها الآخر رهن مجريات الوقائع اليومية التي يعيشها كل منهما، لأنهما تحولا إلى ساحتي صراع مفتوح، تتداخل فيهما قوى ومجاميع أهلية وأطراف إقليمية ودولية لها وزنها في عالم المصالح والنفوذ.
المجتمعان فيهما غرقا في عملية تعسكر، أو شبه تعسكر بفعل الانقسام السياسي الحاد، والمجتمع يدفع الثمن من دمائه وماله ومستقبل بنيه.
هذا الانقسام والاستعصاء على الحلول، قاد إلى إحلال قيم السلاح والبطش والقوة العسكرية والمليشياوية بما تتطلبه من إلغاء القوانين، وتشبيح، وفرض خوات وسطوة، وهدر الثروات، وتدمير المعالم الحضرية والعمرانية والخدماتية.
وإحلالها محل قيم العلم والدرس والمعاناة اليومية لاكتساب كفايات ومهارات تفتح أبواب المستقبل. يجب اقتران ذلك الوضع بحال الفساد المستشري والنهب المنفلت للثروات دون أي شكل من أشكال المراقبة والتفتيش والمحاسبة.
ما يصح على العراق وليبيا يصح على سورية مع فارق في حجم الثروة النفطية. ويغرق لبنان في انهياره المؤسساتي والمالي والنقدي وسط اصطراع قواه الطائفية على النفوذ والهيمنة والمحاصصة.
أما قضية فلسطين فلها خصوصياتها الناجمة عن الاحتلال الصهيوني وحصار غزة، ووجود ملايين الفلسطينيين مشردين في بلاد الشتات العربية وغيرها.
رغم هذا المشهد الكالح يمكن الجزم بأنّ المنطقة العربية ليست ولن تكون “الربع الخالي” من الكفاءات والمحاولات الجادة لتقييم المعطيات ووضع المشاريع والحلول لمعالجة الأعطاب التي تعوق دون التقدم بخطى ثابتة نحو المستقبل المرجو.
تحدثنا عن بعض الدول التي تعاني من محن الحروب والاضطراب والانقسام، ولم نقارب سواها التي تتمتع باستقرار مؤسسي رغم ما يعتريه من أعطاب.
حتى هذه الدول المنكوبة تملك مئات الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، وألوف الخبراء والمتخصصين الجاهزين للعودة من مغترباتهم، عندما يلمسون أنّ هناك تقديراً لجهودهم ولوجودهم وسط مناخ من الديمقراطية واحترام حقوق الانسان، ناهيك عن عشرات ألوف الطلاب الذين يدرسون في الجامعات الأجنبية.
إذاً، الأبواب ليست مقفلة، وهناك نافذة ضوء مفتوحة، فإذا لم تكن موجودة علينا اختراعها.
*د. زهير هواري باحث وأكاديمي لبناني
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: