إدانة ترامب جنائيًّا أو مدنيًّا لا تعنى أن أمريكا أفلتت من المجهول، فصدور قرار بسجنه مثلا معناه أن تقع أميركا فى أتون عنف بلا حدود.
امتناع وزارة العدل عن مقاضاة ترامب قد يؤدي لعودته للحكم في انتخابات قادمة ووأد ديمقراطية أمريكا للأبد؛ ويغدو الإفلات من العقاب سابقة تاريخية.
رغم أن شعبية ترامب صارت اليوم فى أدنى مستوياتها وانْفَضَّ الكثيرون من حوله فعلا، فذلك لا يعنى أنهم بالضرورة اقتنعوا بأن الانتخابات لم تُزور ضده.
المسألة ليست إن كان ترامب مدانًا أم لا ولا إن كان فاز بالانتخابات فالمعضلة أن ملايين الأمريكيين مقتنعين بأن الانتخابات تم تزويرها وأن بايدن ليس رئيسًا شرعيًّا!
* * *
بقلم: د. منار الشوربجي
تقرير لجنة مجلس النواب بخصوص أحداث اقتحام مبنى الكونغرس يقدم بالتفصيل شهادات دامغة تشير إلى تورط ترامب شخصيًّا فى تلك الأحداث. وقد تضمن التقرير توصيات عدة صارت معها الكرة فى ملعب وزارة العدل لتتخذ قرارها فيما إذا كانت ستقاضى ترامب وآخرين «جنائيًّا».
والحقيقة أن اتخاذ مثل ذلك القرار ليس سهلًا، فهو قرار سياسى ليس فقط قانونيًّا. وسواء اتخذت الوزارة قرارًا بالتقاضى أو امتنعت، فإن الولايات المتحدة مقدمة على المجهول.
فتقرير الكونغرس، الذى يقع فى ثمانمائة صفحة، شرح بالتفصيل ما جرى، وأفرد الوقائع لحظة بلحظة، بما يوضح أن ترامب لم يكن فقط يعلم، بل كان مشاركًا فعليًّا، ثم رفض التدخل لوقف العنف.
وهو لم يحث فقط على اقتحام الكونجرس لمنع التصديق على انتخاب بايدن، وإنما عمل، عبر أكثر من وسيلة أخرى، فى السعى للبقاء رئيسًا رغم يقينه أنه انهزم فى الانتخابات بواقع 7 ملايين صوت.
أكثر من ذلك، فإن قضية منظورة أمام المحاكم كشفت عن أن رموزًا مهمة فى إعلام اليمين كانت تدرك أن تزوير الانتخابات لصالح بايدن أكذوبة لا أساس لها.
فمؤسسة «دومنيون»، التى صنعت أجهزة الاقتراع، لجأت إلى القضاء ضد «فوكس نيوز» وغيرها من وسائل إعلام اليمين لأن الأخيرة روجت، ضمن ما روجت، لكذبة مؤداها أن «دومنيون» وضعت فى تلك الأجهزة ما يجعلها تحسب الأصوات لصالح بايدن حتى لو ذهبت لترامب.
وهو ما أثبتت الشركة للمحكمة زيفه، فطلبت المحكمة شهادة مقدمي البرامج، وعلى رأسهم المذيع الأشهر فى «فوكس نيوز»، شون هانيتى، المعروف بعلاقته الشخصية الوثيقة بترامب.
وقد طلبت المحكمة شهادة «هانيتى» تحديدًا لأن الكثيرين ممن روجوا لتلك الأكذوبة ظهروا فى برنامجه، فإذا بـ«هانيتى» يشهد بأنه لم يصدق أكذوبة تزوير الانتخابات، «ولو لثانية واحدة».
وهو ما يدعم موقف مَن يطالبون وزارة العدل بمقاضاة الضالعين فى الأحداث. ويرى هذا الفريق أن امتناع وزارة العدل عن مقاضاة ترامب وآخرين يفتح الباب أمام أمرين، كل منهما أشد مرارة من الآخر:
أولهما أن يصل ترامب إلى الحكم فى انتخابات قادمة، وينجح هذه المرة فى وأد الديمقراطية الأمريكية، وللأبد،
ثانيهما أن يكون إفلات ترامب وفريقه من العقاب سابقة تاريخية يسهل تكرارها.
غير أن إدانة ترامب جنائيًّا أو مدنيًّا لا تعنى أن أمريكا أفلتت من المجهول، فصدور قرار بسجنه مثلًا معناه أن تقع الولايات المتحدة فى أتون عنف بلا حدود!
فالمسألة ليست ما إذا كان ترامب مدانًا من عدمه ولا حتى ما إذا كان قد فاز فى الانتخابات الأخيرة، فالمعضلة الحقيقية هى أن الملايين من الأمريكيين باتوا على قناعة بأن الانتخابات قد تم تزويرها وأن بايدن ليس رئيسًا شرعيًّا.
ورغم أن شعبية ترامب صارت اليوم فى أدنى مستوياتها وانْفَضَّ الكثيرون من حوله فعلا، فذلك لا يعنى أنهم بالضرورة اقتنعوا بأن الانتخابات لم تُزور ضده.
فإيمانهم بأن الانتخابات قد زُورت يكرس من شعورهم بأنهم بحاجة إلى «استعادة بلادهم»، كما كان ترامب يقول لهم، حتى ولو بالقوة. وإدانة ترامب لا تغير أيًّا من ذلك، بل قد ترفع شعبيته لا العكس.
بعبارة أخرى، صحيح أن وزارة العدل تتمتع باستقلالية فى اتخاذ مثل ذلك القرار، ورغم أنها جزء من المؤسسة التنفيذية، فإن استقلاليتها لا تعنى أن قراراتها تقوم على أساس قانونى بحت، فقراراتها تأخذ فى حسبانها اعتبارات سياسية لا فقط قانونية.
*د. منار الشوربجي أستاذ العلوم السياسية المساعد، باحثة في الشأن الأمريكي
المصدر: المصري اليوم – القاهرة
موضوعات تهمك: