لم أتخيل يوما أن ممارسة الفلسطيني حق التنقل بين مدن بلاده في الساعة التي يقررها قد تقود المرء يوما ما إلى حتفه!
قصة الطريق ليست مثل كل القصص وأزعم مسبقا مهما سمعنا أو قرأنا لن نصل إلى تصور ولو متخيل عن التفاصيل.
نعم الرحلة خطرة خصوصا في مثل هذا الوقت لكن أليست تلك بلادنا؟ أليست هذه مدننا ومن حقنا أن نتجول فيها متى شئنا؟
نعم بالتأكيد إنها بلادكم لكن المفروض أن تعيشوا فيها، تهنأ بكم وتهنأون بها، وألا تكونوا مجرد مواطنين في وطنكم على حافة الموت!
حواجز عسكرية بالتأكيد ومستوطنات تخنق البلدات والتجمعات السكانية الفلسطينية، واستفزازات محتملة مع كل الاحتمالات أولا استشهاد أو اعتقال أو إصابة أو إهانات.
* * *
بقلم: بسام البدارين
كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل، وكان الفتى يهم بمغادرة غرفة الفندق بعدما أصلح نظام التكييف فيها، واستأذن بالخروج سريعا ما لم أكن بحاجة إلى أي مطلب آخر على أساس أنه بصدد المغادرة بسيارته الخاصة من رام الله إلى نابلس.
لفت نظري الوقت المتأخر جدا للمغادرة في ظل مخاطر التنقل بين المستوطنات والطرق التي لفظت أحشاءها وتطور مسار الأحداث في مدن الضفة الغربية. سألته عما إذا كانت مغادرته في مثل هذا الوقت بعد منتصف الليل تشكل خطرا على حياته خصوصا وأنه فتى الصيانة المسؤول عن صيانة غرف النزلاء في الفندق الضخم في رام الله. ابتسم الفتى وهو يغلق الباب قائلا: أستاذ نعم الرحلة خطرة خصوصا في مثل هذا الوقت لكن أليست تلك بلادنا؟ أليست هذه مدننا ومن حقنا أن نتجول فيها متى شئنا؟
كانت عبارة ساحرة تصدر عن فتى فلسطينيي غض يعمل في مجال الصيانة ويترك مكان وظيفته في اتجاه مدينة أخرى بعد منتصف الليل في ظل كل ما تشهده الأراضي المحتلة.
أوقفت الشاب وتولدت لدي رغبة قوية في مناقشته والتحدث معه خصوصا عن مخاطر الطريق حيث حواجز عسكرية بالتأكيد في الأثناء والوقت متأخر ومستوطنات تخنق كل البلدات والتجمعات السكانية الفلسطينية، وبالتأكيد استفزازات محتملة مع كل الاحتمالات أولا الاستشهاد أو الاعتقال أو الإصابة بأدنى حد عداك عن الإهانات المحتملة.
طبعا ضحك الفتى وابتسم مجددا، وأبلغني بأن الجنود أحيانا والمستوطنين يوقفوننا لساعات طويلة ولا يسمحون لنا بالمرور لا بل يستهزئون بنا ويسخرون منا ويتحدثون بعبارات مهينة، لكن قصدهم واضح يا أستاذ وهو أن نشعر بالإهانة والاستفزاز ثم تبدر منا ردة فعل حتى يتمكنوا من إطلاق الرصاص علينا وقتلنا.
شرح صاحبنا: نحن معتادون على مثل هذه الأمور ونتعايش معها، وفجأة وهو يغادر مسرعا كرر على مسامعي نفس العبارة: أستاذ أليست هذه بلادنا؟ قلت: نعم، قال: تمام، سأحرك سيارتي الآن وأنتقل من رام الله إلى نابلس في الوقت الذي يلائمني ويناسبني وليس في الوقت الذي يناسبهم، أما حياتي فهي جزء من حالتي الوطنية بصورة عامة وروحي ليست أغلى من أرواح آلاف الشباب من أقاربي وأصدقائي ورفاقي.
بصراحة لم يدر في خاطري يوما أن يناقش أحد معي فكرة حقه الشخصي بالتنقل بين مدن بلاده في الساعة التي يقررها، وعلى الأرجح لم أتخيل يوما أن ممارسة هذا الحق في يوم ما في فلسطين قد يقود المرء إلى حتفه.
في كل حال درب الألم بين رام الله ونابلس يفترض ألا يمتد لأكثر من 40 دقيقة بين مدينتين متجاورتين. لكن الجميع في رام الله يبلغ الضيف والزائر حيث لا سياح إلا نادرا، بطبيعة الحال، بأن هذه الـ 40 دقيقة يمكن أن تتحول بكل بساطة إلى أربع عشرة ساعة، وحتى دون سبب أمني محدد، مما يعني عدم التواصل ليس بين المدن والجغرافيا لكن بين الديموغرافيا والعائلات وبين الناس أيضا.
عجوز رملاوي أبلغني بأنه يجد صعوبة كبيرة في زيارة ابنته في الخليل أحيانا. ومن المستحيل بالنسبة له ولزوجته الشعور بما يشعر به الآخرون من احتفاء واحتفال بأحفادهم ولو مرة واحدة في العام، مؤكدا أن أحد أحفاده عمره الآن ثلاثة عشر عاما في الشتات والمهجر لكنه لم يلتق به.
قصة الطريق ليست مثل كل القصص وأزعم مسبقا مهما سمعنا أو قرأنا لن نصل إلى تصور ولو متخيل عن التفاصيل.
قصة حجب التواصل الجغرافي في الأراضي المحتلة ورغم وجود دولة مفترضة أو شبه سلطة أكبر بكثير مما كنا نعتقد ونتوهم ونحن نفتي بالسياسة أو الإعلام لا بل نزايد أحيانا على الشعب الفلسطيني بطريقة أو بأخرى.
قصة الطريق درب ألم وإنهاك لغرض مجهول ولا يمكن قراءته خارج خطة منهجية لضم وقضم الأرض ثم تعذيب الإنسان. وما سمعته في السياق قد لا يصدق لأن التعارك مع الانتقال والطريق في الحالة الفلسطينية لا يمكن وصفه وأحيانا تخيله بالنسبة لنا سكان مدن الطرق الحرة. لم أر في حياتي شبكة طرق ملتفة ومعقدة يمكن أن يحصل فيها ومعها أي شيء مأساوي وفجأة.
أحد الشباب من قرية في الخليل كان يشرح لي بعض التفاصيل أثناء التنقل: أستاذ هنا إذا ظهرت ماشيا على قدمين فأنت ميت… وهنا إنْ تحركت بسيارتك فأنت ميت. تأمل الجميع في السلطة يوما أن تجد حلا للناس حيث الشعب يعاني ويعزل.
عموما غادرت رام الله تماما وعبارة فتى الصيانة ترن في أذني: «أستاذ أليست هذه بلادنا؟».
نعم بالتأكيد إنها بلادكم لكن المفروض أن تعيشوا فيها، تهنأ بكم وتهنأون بها، وألا تكونوا مجرد مواطنين في وطنكم على حافة الموت.
*بسام البدارين كاتب صحفي وإعلامي أردني
المصدر: القدس العربي
موضوعات تهمك: