يسجّل ظهور بارقة أمل خلال أوائل تسعينات القرن المنصرم في أن تكون نهاية الاتحاد السوفياتي منطلقاً لروسيا جديدة أكثر تعاونا وانسجاما في تمتين العلاقات الاوروبية الأوروبية، إلا أنه سرعان ما يأخذ بتحميل فلاديمير بوتين مسؤولية إطلاق الإمبريالية الجديدة التي يسمّيها “الإمبريالية الثأرية الروسية”.
“تتعسكر” ألمانيا أو تخطو خطوات استراتيجية في سياق إعادة عسكرتها ضمن الحلف الأطلسي والتعاون مع فرنسا والاتحادالأوروبي. بهذا المعنى يذكِّر شولتس روسيا بالحزام الغربي الذي يحيط بها من بحر البلطيق إلى غرب البحر الأسود.
المفارقات والتناقضات جعلت من مقالة شولتس مزيجا مدهشا من ذروة الخطاب الحربي وذروة الخطاب السلمي!
****
بقلم: جهاد الزين
كتب رئيس الحكومة الألمانية المستشار #أولاف شولتس مقالاً في مجلة “فورين أفيرز” الأميركية نشرته المجلة على موقعها الإلكتروني تحت عنوان ألماني إنكليزي هو “The Global Zeitenwende” . وتَبَيّنَ من معنى كلمة zeitenwende في القاموس أنها “نقطة تحول ” وفي بعض الترجمات الأخرى على غوغل أنها “تحوّل الأزمنة” فيصبح المعنى: نقطة التحول العالمي.
يأخذ المستشار شولتس موقفاً متوقعا ومعروفا شديد الصلابة ضد السياسة الروسية وحربها في أوكرانيا. لكن المستشارالمنتمي إلى الحزب الديموقراطي الاشتراكي (SPD) يدين عمليا كل السياسات الروسية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي ولا يأتي عن الأمس بأي كلمة نقد للسياسات الغربية ومسؤولياتها في إثارة مخاوف روسيا في العقود الثلاثة الماضية، المخاوف التي ساهمت في إنتاج ظاهرة الوطنية الروسية الجديدة وممثلها المعاصر الأبرز الرئيس فلاديمير بوتين.
فهو يعتبر توسيع وتضامن الحلف الأطلسي أمرًا طبيعيا. ومع أنه يسجّل ظهور بارقة أمل خلال أوائل تسعينات القرن المنصرم في أن تكون نهاية الاتحاد السوفياتي منطلقاً لروسيا جديدة أكثر تعاونا وانسجاما في تمتين العلاقات الاوروبية الأوروبية، إلا أنه سرعان ما يأخذ بتحميل فلاديمير بوتين مسؤولية إطلاق الإمبريالية الجديدة التي يسمّيها “الإمبريالية الثأرية الروسية” انطلاقا من غزوه جورجيا مرورا باحتلال القرم ومعهما التدخل في سوريا.
غير النفَس الاتهامي هناك النفَس التهديدي الذي يوجّهه المستشار الألماني لفلاديمير بوتين باعتبار لا أفق لحربه في أوكرانيا. وأن الحلف الأطلسي مصمّم على الدفاع عن كل دولة في نطاق الحلف.
التطابق الكامل مع سياسة الولايات المتحدة سمة غير نقاشية في نص المستشار، ورغم موقفه المتميّز من الصين فهويكشف أنه توافق مع الرئيس الصيني تشي جن بينغ خلال زيارته بكين في تشرين الثاني الماضي أن التهديد باستخدام الأسلحة النووية “غير مقبول” و أن استخدام هذا السلاح المرعب يمثّل تجاوزاً لخط أحمر وضعه عن حق الجنس البشري. ودعا شولتس الرئيس الروسي لتسجيل هذه الكلمات جيداً. وكأنه يكشف بطريقة غير مباشرة أن الرئيس الصيني هو صاحب هذه الكلمات عن حليفه الروسي.
وإذ يجزم شولتس بأن أوروبا أخذت كل الاستعدادات لتعداد مصادر التموين بالغاز والنفط والطاقة المتجددة يقدّم صورةإيجابية عن العلاقات الدولية والاقتصادية منها بصورة خاصة من حيث تبلور دول في آسيا (الهند والصين) وإفريقياوأميركا اللاتينية بات لديها ما تقدّمه في مجال التجارة الدولية، معتبرا أن العالم دخل مرحلة جديدة كليا ومعلنا عدم تسليمه بالمنطق القائل أن ما يحصل حالياً هو مجرد انتقال إلى “حرب باردة” بين الولايات المتحدة الأميركية والصين.
وهو لذلك تبعاً للسطر الثاني من عنوان مقاله “كيف نتلافى حربا باردة جديدة في عالم متعدد الأقطاب” يدعو إلى هذاالتجاوز في زمن “أدّى فيه التقدم التكنولوجي إلى خلق مستوى غير مسبوق من التواصل والتعاون. التجارة الدوليةالمتزايدة، انتشار القيم المشتركة في العالم، وحلقات الإنتاج، المتغيرات السكانية والتبادل الذي لا يُقارَن معرفياً العابرللحدود، كل هذه العوامل حقّقتْ خروج أكثر من مليار شخص من حالة الفقر”.
الملاحظة المهمة الأخرى على نص شولتس هي كشفه بالتفاصيل مدى انخراط ألمانيا ضمن الحلف الأطلسي والاتحادالأوروبي في الاستعداد العسكري. وهذا ليس فقط عبر التأهيل الذاتي للجيش الألماني (Bundeswehr) بل أيضا في المهمات التدريبية التي يقوم بها في بعض دول أوروبا وفي المعدات العسكرية التي يرسلها إلى أوكرانيا بصورة خاصة وغيرها.
إذن “تتعسكر” ألمانيا أو تخطو خطوات استراتيجية في سياق إعادة عسكرتها ضمن الحلف الأطلسي والتعاون مع فرنسا والاتحادالأوروبي. بهذا المعنى يذكِّر شولتس روسيا بالحزام الغربي الذي يحيط بها من بحر البلطيق إلى غرب البحر الأسود.
وإذا كان بحر البلطيق والبحر الأسود قريبين من أصوات القنابل والانفجارات، فإن باستطاعة المراقب أن يلاحظ الوضع الجديد المنعكس ايجابا على البحر الأبيض المتوسط من حيث كونه أحد مصادر تعدد التموين بالطاقة بعد #الحرب الأوكرانية خصوصاً أن المسؤولين الأميركيين المعنيين، على سبيل المثال، لا يتركون فرصة دون الإشادة بالانجاز الذي تحقّق “عبر الديبلوماسية” بتحقيق اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، كما فعل قبل أيام وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن في خطابه الافتتاحي أمام مؤتمر منظمة J Street اليهوديةالمؤيدة للسلام ولحل الدولتين في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
لجأ إلى ألمانيا قبل نهاية العقد المنصرم مليون سوري بينهم العديد من الأفغان والعراقيين هربا من بلدانهم والكثيرون منهم عمال مهرة أعيد تأهيلهم ضمن نظام التدريب الألماني ويقول المستشار شولتس في مقاله أن عدد الأوكرانيين الذين لجأوا إلى ألمانيا بعد بدء الحرب بلغ مليون شخص من ضمن الملايين من الأوكرانيين الهاربين داخل بلدهم و إلى بلدان أوروبية عديدة. يمكننا أن نتصوّر حجم التغيير الديمغرافي الحاصل في أوروبا، وألمانيا تحديدا. إنهالجزء الديموغرافي من ال Zeitenwende، الأزمنة الجديدة التي أنهت حسب المستشارمرحلة كاملة من العولمة وبدأت مرحلة جديدة من عالم تعددي يمكنه أن يحول دون “حرب باردة” جديدة.
يتباهى المستشار الألماني بأن الديموقراطيات المتهمة عادة ببطء وتعقيد اتخاذ القرار قياسا بالدول التوتاليتارية، أنها،أي الديموقراطيات أثبتت خطأ هذا الاعتقاد لأن العلاجات الفعالة لجائحة كورونا ظهرت في الغرب وليس في التوتاليتاريات.
أخيرا كان بإمكان مقالة المستشار الألماني الهامة جداً أن تكون مُقْنِعة أكثر في رؤيتها لروسيا وأوروبا والعالم لو تضمّنت جرعة أعلى وأقوى من النقد الذاتي الألماني والأوروبي والغربي خصوصا، على الأقل عدم بذل الجهود الكافية لاستيعاب السلوكيات الروسية العدائية والوصول إلى تسوية في نقطة رئيسية هي تأجيل أو إلغاء الإصرار الأميركي على إدخال اوكرانيا في الحلف الأطلسي، وهي البند الاستراتيجي الذي كان سيختبر لو تحقق مدى التزام الرئيس بوتين بعدم السعي للسيطرة المطلقة على الدولة الأوكرانية. كل هذه المفارقات والتناقضات جعلت من مقالة شولتس مزيجا مدهشا من ذروة الخطاب الحربي وذروة الخطاب السلمي!
*جهاد الزين كاتب صحفي لبناني
المصدر: النهار – بيروت
موضوعات تهمك: