تمثل روسيا الاتحادية ليس مشروعا معادياً للامبريالية، بل سقوط مشروع معاد للامبريالية. لا ندري إذا كانت النخبة الحاكمة في روسيا تعي معنى سقوط الاتحاد السوفياتي، والأهم معنى صعوده من قبل، في الربع الأول من القرن العشرين.
ليست هذه روسيا التي كنا نتوقعها قبل حرب أوكرانيا. السلاح الأمضى بيدها هو بعض المعدات النووية المتطورة، ثم النفط والغاز. فيها الكثير من صفات التخلّف العالمثالثي الممجوج، ومنها تفاوت طبقي يضاهي أكثر البلدان نيوليبرالية.
روسيا تُعتبر “شرقية” لدى أوروبا والولايات المتحدة، كما تركيا، مع فارق في الديانة. لا زال الشرق شرقاً والغرب غرباً، وأصولية الغرب الامبراطوري الفاشية العنصرية في تصاعد مدمر. وقادة بلدان الشرق (أو ما يسمى العالم الثالث والذي ما زال متخلفاً) بيادق في لعبة الشطرنج الدولية.
****
بقلم: الفضل شلق
بين الصعود والسقوط حوالي سبعين سنة، وهي مدة قصيرة. كان صعود الاتحاد السوفياتي وعداً وأملاً للبشرية بتحقيق حلم بشري تكون فيه نهاية الحكم الطبقي واستغلال القلة للأكثرية. حلت مكان الطبقة الرأسمالية وبقايا الفيودالية (Féodalité) نخبة ايديولوجية لا يختلف فيها ملالي الماركسية عن ملالي إيران. ملالي الماركسية حكموا باسم ديكتاتورية البروليتاريا، وملالي إيران يحكمون باسم ولاية الفقيه.
وفي الحالتين اعتُبِرَ كل من عداهم جاهلية حمقاء كالتي أشار إليها سيد قطب، أحد زعماء الأخوان المسلمين، في كتابه “معالم على الطريق”. نخب ايديولوجية تعتبر أنها وحدها القابضة على الحقيقة، وهي وحدها تسلك طريق الصواب. عندما سقط الاتحاد السوفياتي، كان يعاني حالة عميقة من الاهتراء الداخلي.
حالة استعصت على الإصلاح الذي حاوله وفشل، ورأى أن لا بدّ من فكفكة هذا الكيان الضخم الذي كان يعتبر عالماً ثانياً؛ في الشأن الاقتصادي دون الامبراطورية وفوق العالم الثالث. سلّمت النخبة الحاكمة، وريثة النوموكلاتورا، الاقتصاد الروسي في التسعينيات من القرن العشرين لصبية جامعة شيكاغو الذين كانوا رأس حربة النيوليبرالية والخصخصة التي اعتبرت دواء لكل داء؛ مما قاد سريعاً الى صعود طبقة من أرباب المال يُطلق عليهم الآن اسم الأوليغارشيا، وهو تعبير يوناني قديم.
وكان صعود بوتين، وهو ضابط مخابرات من أيام السوفيات، بعد أن حكم بوريس يلتسين لبضع سنوات، هو لاسترجاع السيطرة على موارد روسيا الطبيعية من أوليغارشيا معظمها يهودية، لتسليمها الى أوليغارشيا أخرى أكثر مطاوعة له بما لا يزعج اسرائيل، بل ربما برضاها. فالسلطة في روسيا كانت وما زالت متحالفة مع الدين كما تتحالف معظم الديكتاتوريات.
ربما كان سقوط الاتحاد السوفياتي قد شهد بدايته في عام 1979، عندما احتل السوفيات أفغانستان، دون مبرر، وأقاموا حكماً “شيوعياً”. نفس الفترة شهدت ازدهار ما سمي “الصحوة الإسلامية”، بدعم وتخطيط الامبراطورية الأميركية، ليكون الأمر جهاداً شارك فيه إسلاميون من مختلف البلدان. وكان مركز استقبالهم في مدينة لاهور، في باكستان المحاذية لأفغانستان.
لا بدّ من الإشارة الى أن العام 1979 شهد توقيع كامب دايفيد، وإندلاع “الثورة الإسلامية” في إيران التي أدت الى وصول الإمام الخميني إلى الحكم، وتصعيد الاعتداءات الإسرائيلية ضد لبنان وصولاً الى بيروت (1982)، وإحتلال دائم للجنوب. إحتلال لم ينتهِ إلا في العام 2000.
قال بوتين متسائلاً في خطابه في بداية الحرب الأوكرانية ما معناه هل تريدون منا إرجاع النظام السوفياتي؟ التساؤل بحد ذاته يشير أن لدى صاحبه فهم سطحي للتاريخ. أوهام الامبراطورية تخيّم على رؤى لا تستطيع الاعتراف بالواقع ولا الإحاطة بقساوة حقائقه. النظام الاجتماعي-السياسي لا يُقرره طاغية بل هو نتاج حركة تاريخية.
دور الأفراد في ذلك، مهما علا شأنهم، وبلغ جبروتهم، هو ركوب الموجة التي تنشأ من حركة المجتمع بعد فهمها. والتساؤل أيضاً فيه الكثير من النفاق والرياء، إذ أن صاحبه مؤيّد للرأسمالية النيوليبرالية. فهو كان يُهدّد كذباً، بما ليس في استطاعته فعله. ما لديه هو نظام يحتاج الى تحديث مادياً وتنظيمياً. فمن الواضح أن الدبابات الروسية التي تُعد بالآلاف، والتي كنا نرى طوابيرها في بداية الحرب، قد اختفت بطريقة أو بأخرى. ومن الواضح أيضاً أن روسيا تستورد السلاح من بلدان مجاورة، بينها المُسيرات الإيرانية.
هل يعني ذلك أن روسيا في بعض قطاعاتها متقدمة بما يضاهي الغرب، وفي أكثر القطاعات عالمثالثية الطابع والمستوى؟ ليست هذه روسيا التي كنا نتوقعها قبل حرب أوكرانيا. السلاح الأمضى بيدها هو بعض المعدات النووية المتطورة، ثم النفط والغاز. فيها الكثير من صفات التخلّف العالمثالثي الممجوج، ومنها تفاوت طبقي يضاهي أكثر البلدان نيوليبرالية. علمتنا الأحداث أن لا نأسف على أي طاغية قبل بوتين وأمثاله. ولدينا نحن العرب الكثير منهم. ربما أن الطيور على أشكالها تقع.
فقد تدخّل بوتين في بلد عربي كما تدخلت إيران في هذا البلد وغيره من أجل دعم الثورة المضادة، أو ما كنا نسميه الرجعية العربية. بعد حرب الشيشان الدموية والدخول الى جورجيا ثم كازاخستان دون مقاومة تذكر، ثم المواجهة الدامية في أوكرانيا الأكبر حجماً، والأكثر دعماً من حلف الناتو الامبريالي الامبراطوري، تأكدنا أن العالم أحادي القطبية، وأن روسيا لا تستحق أن تكون القطب الآخر في مواجهة الولايات المتحدة. وتأكدنا أن عرض العضلات البوتينية المترهلة فيه الكثير من الدعائية والهوبرة “الأحمد سعيدية”.
وتأكدنا ان الزعيم الفذ ذا القبضة الحديدية على شعبه، والحكم الديكتاتوري المخابراتي، لا يعرف ما في بلاده. إذ بعد الحرب بشهور أعلن تعبئة لم تكن سجلاتها دقيقة. ربما كانت المعلومات التي تردنا تحوي شيئاً من المبالغة، لكن الجيش الروسي يعاني مشكلات لوجستية ونقص في الأسلحة التقليدية.
هل غرق بوتين وجيشه في رمال متحركة رتّبت عناصرها الامبراطورية الأميركية وحلف الناتو؟ المؤسف أن ما يعانيه بوتين سوف يكون له ارتدادات مدمرة في منطقتنا العربية. ولا ننسى أن بعض قوى الاحتلال الأجنبي في سوريا هي قوات روسية.
وهي على تفاهم مع إسرائيل حول الأهداف التي يمكن لهذه الأخيرة قصفها. ليست المسألة أن لدى الروس “قلة ذكاء” مقابل “كثرة ذكاء” يملكها الأميركيون. المسألة هي “السيستام” مقابل الحاكم الفرد. يتمتّع كل منهما بقدرات كبيرة. “السيستام” يُقرر شيئاً على حركة من حركات الطاغية المعادي، ويستطيع استباقها أو المناورة حولها. الطاغية لا يستطيع الإحاطة المسبقة بتحركات “السيستام”.
حتى “السيستام” الأميركي يرتكب الأخطاء بسبب الاستكبار والتكبّر، لكنه أقل عرضة لذلك من أي نظام من أنظمة الطغيان. طبعاً هناك فرق في الموارد الطبيعية والصناعية والزراعية، إلخ.. وروسيا لا تملك القليل منها. “السيستام” لديه ذكاء استراتيجي (أميركي) أكثر مما لدى الطاغية الفرد (الحاكم في روسيا). يبدو أن الطاغية مهما بلغ من الذكاء والعبقرية، يبعده الاستبداد عن شعبه، فتنخفض أو تقل معرفته به. وشعبه كما يقال لا يريد هذه الحرب. ويبعده الاستبداد والتفرّد بالرأي عن فهم جيوسياسية العالم، مما يجعله عاجزاً عن فهم العالم.
ما لا يفهمه بوتين هو أن شعبه لا يريد الحرب، بما فيه جيشه. وأن الخصم، بالأحرى العدو الامبراطوري، يريد الحرب الأوكرانية؛ فهو في هذه الحرب يلبي حاجة أميركية لا حاجة روسية، وبينهما تدفع أوروبا الثمن. فهل هو ذاهب الى حيث ذهب نابوليون وهتلر (بالاتجاه المعاكس)، والى حيث ذهب هنيبعل من قبل؟ وهذا الأخير لم تدعمه بلده قرطاجة في حروبه الأخيرة ضد روما، فدفع الثمن غالياً كما دفعت قرطاجة، وخرجت روما منتصرة على الجانب الآخر من المتوسط.
لا نفرح بالحرب مهما كانت، وبلادنا تعاني الكثير من آلة الحرب الإسرائيلية-الأميركية. ولا نفرح بعالم ذي قطبية واحدة تديره امبراطورية بعشوائية ما يسمى القانون الدولي، الذي تقرره العشوائية الامبراطورية حسب ما تراه “مصلحة وطنية” لها في كل نواحي الأرض. ولا نفرح أن نرى الدول التي تعادي الامبراطورية على هذا القدر من الهزال.
كما أن الحركات الشعبية التي تعودنا عليها تناضل ضد الامبراطورية و”سيستامها”، نراها قد تلاشت، حتى باتت امبراطورية القطب الواحد دون خصم يواجهها مواجهة جدية. الأحزاب اليسارية وحركات الاحتجاج البيئية لا تستطيع أن تخدش القوة الامبراطورية. حرب أوكرانيا هي واحدة من حروب المنبوذين من النظام العالمي، وهؤلاء نبذتهم الامبراطورية (أو “السيستام” أو النظام العالمي) للقيام بحروب غير مبررة إلا من أجل السلطة واقتسام الغنائم بغض النظر عن إرادات ومصالح شعوبهم.
كما رفض الاتحاد الأوروبي عضوية تركيا برغم أنها أساسية في حلف الأطلسي الذي يحمي أوروبا، فقد رفض هذا الحلف (الناتو) عضوية روسيا بوتين بعد أن أعطى وعوداً بعدم التوسّع شرقاً، ثم نكث بها، فأثار غضب بوتين كما أثير غضب صدام حسين في الماضي كمقدمة لتدمير العراق. روسيا تُعتبر “شرقية” لدى أوروبا والولايات المتحدة، كما تركيا، مع فارق في الديانة. لا زال الشرق شرقاً والغرب غرباً، وأصولية الغرب الامبراطوري الفاشية العنصرية في تصاعد مدمر. وقادة بلدان الشرق (أو ما يسمى العالم الثالث والذي ما زال متخلفاً) بيادق في لعبة الشطرنج الدولية.
*الفضل شلق كاتب صحفي لبناني
المصدر: 180 بوست
موضوعات تهمك: