ليس أمراً عاديّاً في ظروفٍ إيرانية غير عادية، أن يُفسَح المجال لـ”الحكيم” الإصلاحي المغلوب على أمره، وصف العلاج المناسب لإخراج أزمة النظام الديني من الطريق المسدود نتيجةً للقصور والفشل في مجال الحريات الأساسية والحقوق المدنية، وإن كان أمراً طبيعياً أن يتدخل رئيس سابق ووجه بارز في الجناح الإصلاحي لمقاربة أزمة بنيوية للمؤسسة الحاكمة في إيران لو أن ديموقراطيّتها الموجهة لم تفرض عليه ورفيقيه مير حسين موسوي ومهدي كرّوبي الإقامة الجبرية الملازمة لحظر ممارسة النشاط السياسي.
ليس معروفاً حتى إشعار آخر ما إذا كان لدى القيّمين على السلطة الاستعداد الكفيل باستجابة مطالب الشعب الإيراني الذي يقول علماء الأنثروبولوجيا إنّه عندما يُقدِم على ثورة أو حركة تمرّد، فإنّه يعرف تماماً ما لا يريد لكنّه لا يعرف ماذا يريد تحديداً؟
بات متداولاً لدى الأوساط السياسية في طهران أن العلاقة الإيرانية بكل من القوّتين الصاعدتين دولياً روسيا والصين، اكتسبت في الآونة الأخيرة بُعداً مصيرياً بالنسبة إلى إيران عقب التفكك الذي أصاب مجموعة 5+1
* * * *
بقلم: ميشال نوفل
في هذه الحالة ـ الاستثناء، يُفترض أن تكون الشعارات القصوى لحركة الاحتجاج التي تعني على ما يبدو قطاعاً واسعاً من الجمهور الإيراني، هي الدافع لتقدم خاتمي صفوف المعارضة الإصلاحية والتأكيد أن قلب النظام ليس ممكناً وليس مطلوباً، أو هي المخاطر التي ينطوي عليها توسع نطاق التظاهرات وتصاعد العنف، تحضُّ على خلط الأوراق داخل تركيبة المنظومة الدينية وإعادة هندسة توازنات السلطة تمهيداً لمخرجٍ يتجاوز العجز السياسي واللّغط العقيم حول التآمر الأجنبي.
جذور الأزمة إذاً، هو تقويم يُصدره السيّد المستنير محمد خاتمي مُنبّهاً أهل السلطة والمرجعية إلى أن جذور الأزمة الإيرانية يجب البحث عنها داخل البلاد لكونها نتيجة آلية حكم تشوبها أخطاء وطريقة في الحوكمة خاطئة، الأمر الذي يفرض الاعتراف بالحقيقة وعدم التهرّب من تحمّل المسؤولية بذريعة وجود تدخلات خارجية تدفع نحو حربٍ أهلية.
اللافت للانتباه في موقف خاتمي الذي سبق وتعامل بنجاح مع ما سُمّي “ثورة النُّخب” ومطالب التكنوقراط في عهده (1997 – 2005) في ظلِّ توازنات صعبة مع مكتب المرشد الأعلى علي خامنئي، تحذيره من الانهيار الاجتماعي الذي يمكن أن تفضي إليه موجة الاحتجاجات والعنف المتصاعد بسبب القمع منذ منتصف أيلول/سبتمر الماضي تاريخ وفاة الشابة الإيرانية مهسا أميني. وقد أسفرت حركة الاحتجاج التي تُعتبر الأوسع منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، عن سقوط مئات القتلى والجرحى واعتقال الآلاف من الناشطين وتهديد بعض المعتقلين بعقوبات تصل إلى الإعدام.
لذلك يقترح خاتمي أمام تدهور الوضع، أن السبيل الأقل كلفة والأكثر فائدة لإعادة بناء الثقة بين النظام وشريحة وازنة من المجتمع، يمرّ عبر تصحيحٍ ذاتيّ للنظام السياسي، سواء لجهة تركيبته أو لجهة تصرّفه، بل يشدّد خاتمي على أهمية الإقرار بحقوق الشعب واحترام الحرّيات الأساسية. وهنا إشارة حمراء تتعلق بتحدّيات إثنية – قومية وأخرى مذهبية للأزمة تتطلب التعامل بحكمة وتعقّل مع مسألة الأمن القومي للجمهورية الإسلامية ومبدأ التوازن الحيوي بين “منطقة القلب” الشيعيّة الفارسية الأذريّة (61% و16%)، وحزام الأطراف السنّية بلونها القومي الكردي غرباً (10%) وسِمتها الإثنية البلوشيّة – السيستانيّة شرقاً، من دون أن ننسى عشائر التركمان شمالاً، وعرب الأهواز جنوباً. وهو الأمر الذي يعني العمل فوراً لوقف حملات الافتراء والتحريض ضدّ الأقليات الكبيرة الكردية والبلوشية تحت عنوان التطرف القومي حيناً، والإرهاب التكفيري المدعوم من السعودية حيناً آخر.
شعب لا يعرف ماذا يريد
في هذا السياق، يرى مراقبون لديناميّة الأنثروبولوجيا السياسية الإيرانيّة أنّ انفجار أزمة الحرّيات الأساسيّة والحقوق المدنية في وجه النخبة الحاكمة في إيران، كان متوقّعاً وله مقدّمات عدّة فشلت أجهزة السلطة في التقاط صواعقها بسبب العنجهيّة المتأتّية من النجاح السُّلطوي في قمع ووأد حركات الاحتجاج السابقة ولا سيّما “الثورة الخضراء” (2009 – 2010) وحركات الاحتجاج الجامعية وتلك المتعلقة بسوء إدارة مشكلة الجفاف وتوزيع المصادر المائيّة، ثم موجة الاعتصامات رداً على خطة الحكومة تعديل الدعم للقمح ورفع أسعار بعض السلع الغذائية الأساسية، وقبلها سلسلة التظاهرات في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 احتجاجاً على ارتفاع أسعار الوقود، في خضمّ عملية احتواء قواعد الحركة الإصلاحيّة في البنية الاجتماعيّة، ومنها الحركة الطلابيّة في الجامعات والصحافة الحديثة المستقلّة، وصولاً إلى تردّي أوضاع حقوق الإنسان إلى درجةٍ يشهد عليها غياب ضمانات لحياة السجناء السياسيّين ولعمل الصحافيين الأحرار.
ليس معروفاً حتى إشعار آخر ما إذا كان لدى القيّمين على السلطة الاستعداد الكفيل باستجابة مطالب الشعب الإيراني الذي يقول علماء الأنثروبولوجيا إنّه عندما يُقدِم على ثورة أو حركة تمرّد، فإنّه يعرف تماماً ما لا يريد لكنّه لا يعرف ماذا يريد تحديداً؟ لذلك يرى الإيراني نفسه يتّخذ قرار الرفض من دون تأخّر، ويتردّد في المضيّ إلى آخر الشوط وإن كان مقتنعاً بضرورة رفض وضع معيّن، ذلك أنّ الحالة الثانية طويلة الأجل ومن شأن دراستها أن تأخذ وقتاً، وكذلك الانخراط في التحرك العملي أو النضالي.. ويبقى الثابت أنه عندما يُقرّر الإيرانيون رفض وضع معيّن فإن اجتياز خطّ العتبة يكون سريعاً!
الأجيال الثورية في أي حال، يمكن أن يُسجل للطاقة الحيويّة للشعب الإيراني بكل مكوّناته، أنها حققت ثلاث ثورات كبرى في قرن واحد: الثورة الدستورية (1906 – 1911) وثورة تأميم النفط في خمسينيات القرن الماضي، وأخيراً الثورة الإسلامية التي بدأت مدنية ترفع لواء حقوق الإنسان في وجه الاستبداد وطغيان نظام الشاه، ثمّ تلقّفتها الدعوة الخمينية لتدخُل سياقاً قومياً دينياً تمخّض عن ولادة جمهورية ولاية الفقيه (1979). ويتبيّن من هذه المسيرة التاريخية، أن كل جيل ثوري كان يقرّر مصيره بمعزل عن طموحات وتطلّعات الجيل الثوري السابق الذي كان يتصرّف وكأنه يحدّد آفاق الجيل اللاحق الذي لا يلبث هو أيضاً أن ينتفض على مَن سبقه.
ويبدو أن هذه الظاهرة الأنثروبولوجية تتكرّر في التاريخ الإيراني ضمن سياقات الانقطاع والتواصل، حيث يتصرّف كل جيل من الثوريين الدينيين والمدنيين على أساس أن القيام بالثورة مبدأ وواجب وإن لم يكن مؤكداً أنها قادرة على المضيّ إلى الأمام وإنجاز مشروعها. من هنا اعتُبرت حركة الإصلاح والتجديد في عهد الرئيس خاتمي بمثابة “ثورة صامتة” أثارت مخاوف طبقة رجال الدِّين ودفعت المقدَّمين منهم إلى الرّهان على منظومة الحرس الثوري والعمل لتمكينها لكي تتحوّل إلى ضمانة أمنية لحماية المصالح وتأمين المستقبل. ولقد تحدث بعض الخبراء في حينه عن انقلاب زاحف من شأنه إعادة إنتاج آليات الإستبداد على النحو الذي أودى بمكتسبات حركة مصدّق، خصوصاً أن نظرية ولاية الفقيه تعود جذورها إلى النظام الصفوي كما أوضح المؤرّخ وجيه كوثراني في أحد أبحاثه.
ويبدو أن هذه الظاهرة الأنثروبولوجية تتكرّر في التاريخ الإيراني ضمن سياقات الانقطاع والتواصل، حيث يتصرّف كل جيل من الثوريين الدينيين والمدنيين على أساس أن القيام بالثورة مبدأ وواجب وإن لم يكن مؤكداً أنها قادرة على المضيّ إلى الأمام وإنجاز مشروعها. من هنا اعتُبرت حركة الإصلاح والتجديد في عهد الرئيس خاتمي بمثابة “ثورة صامتة” أثارت مخاوف طبقة رجال الدِّين ودفعت المقدَّمين منهم إلى الرّهان على منظومة الحرس الثوري والعمل لتمكينها لكي تتحوّل إلى ضمانة أمنية لحماية المصالح وتأمين المستقبل. ولقد تحدث بعض الخبراء في حينه عن انقلاب زاحف من شأنه إعادة إنتاج آليات الإستبداد على النحو الذي أودى بمكتسبات حركة مصدّق، خصوصاً أن نظرية ولاية الفقيه تعود جذورها إلى النظام الصفوي كما أوضح المؤرّخ وجيه كوثراني في أحد أبحاثه.
تحول في وظيفة الحرس
من هذا المنظور التاريخي يبدو التحدّي الإيراني الراهن خطيراً، إذا صحّت فرضيّة أنّ غالبيّة عظمى من الإيرانيين قرّرت رفض الوضع القائم، وتجاوز الموقف الديني السياسي المستند إلى العصبية الخمينيّة التي تفيد نظرية ابن خلدون أنها أكملت “حياتها الأولى” المكوّنة من 40 سنة شهدت تحوّلات وتقلّبات منها اندماج المؤسسة الدينية الشيعية بهيكلية الدولة بحيث بات من الصعب الآن الحديث عن حفاظها على استقلاليتها. وإذ تدخُل الخمينيّة مرحلة “الحياة الثانية” للعصبية والتي يفترض أن تدوم 40 سنة أخرى حسب الكرونولوجيا الخلدونيّة، فإنه يحدث بالضرورة تحوّل في وظيفة الحرس الثوري من شأنه أن يقود ضبّاطه الكبار القادمين من تجربة الحرب مع العراق إلى إغراء ممارسة السلطة لحسابهم كطبقة جديدة قوية. والله أعلم ببواطن مخلوقاته ونوازع العسكريتاريا، وإن كان لا يمكن استبعاد احتمال أن تكون مقاليد الأمور قد أفلتت من أيدي رجال الدِّين لمصلحة المنظومة الأمنية.
إلى ذلك، يصحّ التصوّر في عالم متحوّل على وقع اصطفافات جديدة تكشف عنها حرب أوكرانيا والحضور الإيراني الصاروخي في الجانب الروسي هناك، أن انتقال الضغوط السياسية من العتبات الإقليمية لـ”محور المقاومة” العربي/الإيراني، إلى داخل الجمهورية الإسلامية، يطرح تساؤلات حول الاستراتيجية غير الموازية لإيران في وجه الهيمنة الأميركية والتهديد الإسرائيلي في الشرق الأوسط، خصوصاً قدرة البنية الجيوسياسية الإيرانية على تحمّل هذه الضغوط من دون الذهاب بعيداً في “الخيار الشرقي” والشراكة العضوية مع الصين وروسيا.
وفي هذا الصدد، بات متداولاً لدى الأوساط السياسية في طهران أن العلاقة الإيرانية بكل من القوّتين الصاعدتين دولياً روسيا والصين، اكتسبت في الآونة الأخيرة بُعداً مصيرياً بالنسبة إلى إيران عقب التفكك الذي أصاب مجموعة 5+1 التي تضم الدول الغربية الكبرى والصين وروسيا، على خلفية المواجهة في أوكرانيا، وتالياً تراجع التوقعات في شأن الفوائد المرجوة من إعادة إحياء الاتفاق النووي مع الغرب. واستنادًا إلى التصور المتداول اياه، فإن المصلحة الإستراتيجية لإيران في ظل التوتر المتصاعد مع الغرب (وآخر فصوله تركيز الضغوط من خلال الوكالة الدولية للطاقة على مطلب التحقيق بشأن منشآت إيرانية للتخصيب غير معلنة)، تدعوها إلى تنمية العلاقات وتعزيزها مع القوى العالمية الناشئة مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، باعتبار أن هذا الإتجاه في السياسة الخارجية يُوفّر عوامل للتوازن والاستقلالية أكثر من الروابط مع دول الغرب.
تناقض وحاجة في آن معاً
وفي هذا السياق، ترى إيران نفسها قوة وازنة دولياً مثلها مثل الهند، وأن عليها بالتالي ألا تتأخر عن امتلاك المقومات الاقتصاديّة والتكنولوجية التي تساعد في بلوغها حقا المدار الذي تسبح فيه نظيرات لها في العالم، خصوصاً أن البرنامج النووي يؤكد أن لديها قاعده أساسية صناعيّة وعلميّة قابلة للتطوير، ناهيك بتكنولوجيا الصواريخ الدقيقة والبالستية.
ونظراً إلى التناقض المحتدم مع الولايات المتحدة الأميركية سيكون على إيران بذل جهد مضاعف في حقل الديبلوماسية لاجتياز حواجز العرقلة الأميركية المانعة لانتقال التكنولوجيا المتقدمة، وهذه بلا شك عملية صعبة ومعقدة ولكن ممكنة بفضل الشراكة الاستراتيجية مع الصين واستثماراتها الواسعة في حقول الغاز والنفط والمعادن النادرة وشبكة المواصلات، والتأقلم مع الاتجاه التاريخي والحضاري لانتقال مركز الثقل الاقتصاديّ العالمي من الغرب إلى المدار الأسيوي. وتفترض هذه القفزة الكبرى جسر الهوة بين النظام والمجتمع في إيران، وإنتهاج سياسة الانفتاح والتفاعل الايجابي مع القوى المدنية سعياً إلى الحد من هجرة الأدمغة والاختناق الثقافي الذي يُسمّم حياة الشباب ويزيدها قلقاً.
*ميشال نوفل كاتب صحفي لبناني
المصدر: 180 بوست
موضوعات تهمك: