من ذا الذي يَقْوى، اليوم، على استضعاف الصين بعد أن حازتِ القوّة وباتت من كبارها في العالم؟
نهضت الصين من كبوتها وأطلقت مشروعها الوطنيّ التّنمويّ، وارتقت بمعارج التّقدّم، باتت مُهابة الجانب.
لقد استُضعِفت الصّين في الماضي القريب، فاحتلتها اليابان، وتمزّقت كيانات، وحوصرت من القوى الغربيّة طويلاً.
هناك خلل يعتور نظامَ العلاقات الدّوليّة نتيجة سيطرة مبدأ القوّة عليها وصيرورتِه وازعاً للتّحكّم في الآخرين وفرض الإرادة عليهم واستضعافهم.
يأخذ الاستضعاف شكلَ تَحَكُّمٍ إرادة الأقوى بمن دونه قوّةً، ويتبدّى في إكراه من يقع عليه على الامتثال لإرادة المتحكِّم؛ أو إجباره على التّنازل عن حقٍّ له!
قد يبلُغ الاستضعاف درجةَ إذلال المستضعِف للمستَضْعَف، وامتهان كرامته إلى حدّ الشّعور لديه بأنّه أخضع إرادة المستَضعَف تماماً ولم يعد، يخشى من مقاومته.
إنّها القوّة؛ المنطق الوحيد الذي تشتغل به آلةُ السّياسة على الصّعيد الدّوليّ، ولا تَحُدُّ جموحَه قوانين أو أعراف، ولا يأبَه لأحكامٍ إن هي تعارضت مع المصلحة.
* * *
بقلم: د. عبد الإله بلقزيز
الاستضعافُ سمةٌ من سمات السّياسة والسّياسة الدّوليّة في عالم اليوم، ولعلّه كان كذلك في سائر الأزمنة على ما تفيد بذلك وقائع التّاريخ.
والغالب عليه أن يأخذ شكلَ تَحَكُّمٍ لإرادة الأقوى بمن دونه قوّةً، وأن يتبدّى التّحكّم في صُوَرٍ مختلفة منه: في إكراه من يقع عليه فعْلُ التّحكّم على الامتثال لإرادة المتحكِّم؛ أو في إجباره على التّنازل عن حقٍّ له؛ أو في دفعه إلى الإحجام عن المطالبة بما يحسبه في عداد حقوقه؛ أو بوضعه تحت إمْرته تابعاً لرأيه وخياراته…إلخ.
في هذه الأحوال جميعها يُوجَد المستَضْعَف في وضعٍ يكون فيه منزوعَ الإرادة أو، على الأقل، غيرَ مالكٍ لها ملكيّةَ سيّدٍ على نفسه.
قد يبلُغ الاستضعاف، أحياناً، درجةَ الإذلال؛ إذلال المستضعِف للمستَضْعَف، والإمعان في امتهان كرامته إلى الحدّ الذي يُشبِع الشّعور لديه بأنّه أخضع إرادة المستَضعَف إخضاعاً كاملاً ولم يعد، بالتّالي، يخشى من أن يَلْقى منه مقاومة.
وهذه مرتبة من الاستضعاف يختلط فيها مبدأ القوّة بالمنزِع إلى الانتقام، ويختلط فيها السّياسيّ بالسّيكولوجيّ إلى الحدّ الذي يستعصي فيه التّمييز.
علاقات الاستضعاف بيّنة في السّياسات الدّوليّة، على الرّغم من كلّ الطّلاء الإيديولوجيّ الذي يحاول أن يخفيها باسم القانون الدّوليّ، أو مبادئ التّعاون بين الدّول. تأتيه الدّول الكبرى بالتِّلقاء كما لو كان فعلاً مشروعاً، خاصّةً حينما يكون لتلك الدّول مشروع للهيمنة الإمبراطوريّة على العالم أو على جزءٍ منه.
فعلت ذلك، في العصر الحديث، دولٌ كبرى مثل بريطانيا وفرنسا والاتّحاد السّوڤييتيّ والولايات المتّحدة. وكانت جميعُها تَعد السّيطرة والإخضاع والهيمنة حقّاً لها وليس اعتداءً منها على حقٍّ أو حقوقٍ للآخرين!
بل ظلّت تَعُدُّ الامتثال لإرادتها واجباً على الدّول الأخرى لأنّ به انتظامَ العالم واستقامةَ أموره العامّة! ولم يكن صدفةً أنّ هذه الدّول الكبرى – التي صاغت بنية النّظام الدّوليّ بعد نهاية الحرب العالميّة الثّانية – أفردت لنفسها مركزاً قياديّاً فيه يدير أمور العالم هو مجلس الأمن، ومتّعت نفسها فيه بسلطةٍ استثنائيّة هي سلطة النّقض (الڤيتو)؛ السّلطة التي تتبخَّر بها مَزْعمة «الميثاق» بأنّ دول العالم سواسية أمام القانون الدّوليّ، وتتمتّع بالحقوق عينها!! فيما هي، على الحقيقة، موزّعة بين مسيطِرين وخاضعين، بين سادةٍ وأتباع.
ويحصل، أحياناً، أن ينقلب الاستضعاف إذلالاً في العلاقات بين الدّول أو بين الشّعوب والأمم. الاستعمار والاحتلال مثلاً كان – ولا يزال حتّى يوم النّاس هذا- فعْلَ إذلالٍ بغيض؛ إذلال الاحتلال وقواهُ وسلطاته للشّعوب الرّازحة في قيوده، بعد مصادرته أرضَها وحقوقَها واستقلالَها.
بل لقد شهدنا نماذجَ جديدة معاصرة من ذلك الإذلال من طراز ذاك الذي مثّلتْه سياسات الحصار الاقتصاديّ والتّجويع وإذلال الدّولة والشّعب، كما في حصار العراق لثلاثة عشر عاماً وإزهاق أرواح مليونٍ ونصف المليون طفل. وهو الحصارُ الذي يُنْسج على منواله من قِبَل آخرين في مناطقَ مختلفة من العالم.
إنّها القوّة؛ المنطق الوحيد الذي تشتغل به آلةُ السّياسة على الصّعيد الدّوليّ، والذي لا تَحُدُّ جموحَه قوانين أو أعراف، ولا هو يأبَه لأحكامٍ إن هي تعارضت مع الوجه الآخر له: المصلحة.
والقوّة التي نعني ليست القوّة العسكريّة فقط – وإن كانت هذه في عُرف بعض الدّول الكبرى أرفعَ مراتب القوّة – وإنّما منها، أيضاً، القوّة الاقتصاديّة والماليّة والتّجاريّة والتّكنولوجيّة والعلميّة.
ومن ليسوا أقوياء اليوم في هذا العالم، لا أحد يقيم اعتباراً لهم وإنْ كانوا ذوي حقوق مشروعة. لنتذكّر كيف استُضعِفت الصّين في الماضي القريب: كيف احتُلّت من اليابان، وكيف تمزّقت كيانات، وكيف حوصرت من القوى الغربيّة طويلاً.
وحين انتهضت من كبوتها وأطلقت مشروعها الوطنيّ التّنمويّ، وارتقت في معارج التّقدّم، باتت مُهابة الجانب. من ذا الذي يَقْوى، اليوم، على استضعافها بعد أن احتازتِ القوّة وباتت من كبارها في العالم؟
من البيّن، إذن، أنّ خللاً يعتور نظامَ العلاقات الدّوليّة نتيجة سيطرة مبدأ القوّة عليها، وصيرورتِه وازعاً للتّحكّم في الآخرين وفرض الإرادة عليهم واستضعافهم.
ومن البيّن أنّ أمرَ هذه العلاقات لن يستقيم، فيستتبّ الأمن وتنمو إرادةُ التّعايُش والتّعاوُن، من دون أن يرتفع السّبب الكامن وراء ذلك الخلل. لسنا طوبويّين لنعتقد أنّ على نظام العالم أن يسير بمقتضى الفضيلة والأخلاق.
فبين السّياسة والأخلاق بوْنٌ شاسع منذ فجر عصرها الحديث، ولكنّنا نؤمن بأنّ قليلاً من الاعتراف بوجود شركاء آخرين في النّظام الدّوليّ كفيل بأن يعدّل صورة القوّة والغطرسة قليلاً. على أنّ تعديلاً حقيقيّاً لها لن يكون إلاّ بفرض الدّول الصّغرى نفسَها وفرضَ احترامها من قِبَل الآخرين.
*د. عبد الإله بلقزيز كاتب وأكاديمي مغربي
المصدر: الخليج – أبو ظبي
موضوعات تهمك: