هل انتهت حكاية عدي التميمي بموته؟ هل الموت هو نهاية الحكاية أم بدايتها؟موت البطل ليس نهاية الحكاية، إنه بدايتها!
لم يكن عدي مطارَداً، بفتح الراء، بل كان مطارِداً، بكسرها. لم يكسر الراء وحدها، بل كسر القواعد التي أرساها جيش الاحتلال.
عدي التميمي امتداد لإبراهيم النابلسي الذي كان امتداداً لرعد حازم الذي كان امتداداً لداود الزبيدي.. ليمتد النسب وصولاً لأسماء لا عدد لها.
إبراهيم النابلسي قال في رسالته الصوتية إلى والدته إنه يعرف أنه سيستشهد، لكنه كان يعرف أيضاً أن موته سيؤسس «عرين الأسود» في نابلس.
غداً سننسى الأسماء وستذوب في اسم واحد هو الحرية. سيطلق الفلسطينيون على كل زيتونة اسم شهيد. الزيتون ليس ضريحاً للموت بل جذور تجدد الحياة وتتجدد بها.
حين قرر أن يختبئ في «جفن الردى»، كتب عدي التميمي رسالة بحبر موته: «أعلم أنني لم أحرر فلسطين بهذه العملية، لكن نفذتها وأنا أضع هدفاً أمامي، أن تحرك العملية مئات من الشبان ليحملوا البندقية بعدي».
* * *
في الواحدة والنصف من فجر الأحد 23 تشرين الأول/أكتوبر، انفجرت عبوة ناسفة في درّاجة في حارة الياسمينة، محولة أحد قادة «عرين الأسود»، في نابلس المحاصرة، تامر الكيلاني، إلى أشلاء.
كان هذا الاغتيال تكراراً مقصوداً لمشهد اغتيال غسان كنفاني في الحازمية – بيروت منذ خمسين عاماً.
حكاية تامر لم تنته في حارة الياسمينة، إنها تشبه حكاية عدي التميمي التي لم تنته على مدخل مستعمرة «معاليه أدوميم»، وحكاية إبراهيم النابلسي التي لم تنته في حارات نابلس القديمة.
حين يتكلمون في نابلس عن «عرين الأسود»، فهم لا يتكلمون فقط عن مجموعة من شبان حارات المدينة العتيقة، الذين أشعلوا النار في جبل النار، بل يتكلمون أيضاً عن روح المكان.
فلكل مدينة روحها التي تصنع نبضات حياتها. وأرواح المدن مليئة بالأغصان.
كل مدن فلسطين ومخيماتها وقراها تمد أغصانها لتحتضن الغصن الذي سقط في نابلس مثلما احتضنت الأغصان التي سقطت في القدس وجنين.
* * *
عندما كتبت في الأسبوع الماضي عن السلطان حامد، مستلهماً قصة يوسف إدريس «سره الباتع»، كنت لا أعرف كيف ستنتهي الحكاية.
انتقلت الحكاية من قرية «شطانوف» المصرية إلى مخيم «شعفاط» في القدس، وتوقفت مع شباب من المخيم وهم يقومون بحلق رؤوسهم على الصفر، تشبهاً بالفدائي عدي التميمي.
بدل أن يقطعوا أصابعهم كما فعل شباب قرية «شطانوف» في زمن الاحتلال الفرنسي كي يحموا البطل، حولوا رؤوسهم إلى مرايا للبطولة.
استأنف الفدائي الحكاية عندما كتب صفحة جديدة، وهو يؤدي رقصة الحياة الأخيرة، حاملاً «مسدسه الزاهد»، بحسب تعبير الروائي أكرم مسلم، ومستشهداً وهو يهاجم مستعمرة معاليه أدوميم.
أطلق النار، رقص بين زخات الرصاص التي انهالت عليه، سقط أرضاً ولم يستكن، بدّل جعبة الرصاص، وواصل إطلاق النار، انشلت قدماه ولم تنشل إرادته. وعندما عانق الأرض، نزف جسده دماً وزيتاً.
هل انتهت حكاية عدي التميمي بموته؟
هل الموت هو نهاية الحكاية أم بدايتها؟
إبراهيم النابلسي قال في رسالته الصوتية إلى والدته إنه يعرف أنه سيستشهد، لكنه كان يعرف أيضاً أن موته سيؤسس «عرين الأسود» في نابلس، أما عدي التميمي فقد ترك وصية مليئة بتواضع الكبرياء، قال إنه يعرف أن عملية حاجز مخيم شعفاط لن تحرر فلسطين، لكنه حين قرر أن يختبئ في «جفن الردى» كتب رسالة بحبر موته، وقال: «أعلم أنني لم أحرر فلسطين بهذه العملية، لكن نفذتها وأنا أضع هدفاً أمامي، أن تحرك العملية مئات من الشبان ليحملوا البندقية بعدي».
هذا هو الكلام الفصل، ومع ذلك فقد أخطأ الشهيد، فالتواضع جميل ونبيل، لكنه قد يقود إلى خطأ غير مقصود.
قال الشهيد إن عمليته لم تحرر فلسطين، وهذا ليس صحيحاً. فالتحرير هو في مبتدئه تحرير للإرادة والكرامة. فحين يتحرر الإنسان من الذل والخوف، تتحرر الأرض، لأن الإنسان هو روح الأرض.
كلام عدي، ككلام شهداء جيل التحرر من الخيبة والخنوع، هو كلام بدايات واحتفاء بالحياة.
موت البطل ليس نهاية الحكاية، إنه بدايتها.
هذه الحكاية تبدأ كل يوم.
الحكايات تتحدى الموت عندما تقوم بتحويله إلى أعلى مراحل الحياة وأكثرها تفجراً بالمعاني. حامد في قصة يوسف إدريس مات اغتيالاً على يد جندي فرنسي رآه في السوق فتعرف إليه وأرداه، أما عدي التميمي فمات مقتحماً.
تحول حامد المصري إلى سلطان على القلوب، أما عدي الفلسطيني فصار إيقاعاً لنبض الحياة في وطنه، واسماً جديداً لإرادة الحرية.
أطلقوا عليه صفة الإرهابي، ولاحقوه في كل الأمكنة، لكن الفتى الشجاع كان يعلم أن الصفة الوحيدة التي تليق به هي الفدائي.
صحح اللغة كي يصحح المسار، وكان عليه أن يفتدي الحق بدمه.
شاب من مخيم شعفاط، رياضي يعتني بجسده وحسن مظهره، وسيم ولطيف وحنون كما قالت والدته وهي توزع الحلوى على المعزين. يقول عارفوه إنه لم يتدرب على حمل السلاح، وقد فوجئ أصدقاؤه بانكبابه على العمل ساعات إضافية معتقدين أنه يجمع المال لأنه قرر أن يتزوج.
اكتشف الجميع بعد ذلك أن الشاب جمع المال من أجل أن يشتري مسدساً، وأنه كان يخطط لعملية حاجز شعفاط وحيداً وبهدوء.
لو روى عدي لقال إنه أصيب بالذهول عندما أطلق رصاصات مسدسه على جنود الحاجز، لم يكن يتوقع أن يخرج من العملية الفدائية حياً، لكنه نجا. الجنود الإسرائيليون أصيبوا بالارتباك وتلعثمت بنادقهم، فخرج من وسط المعركة بهدوء، ومضى.
توقع الإسرائيليون اختفاء الشاب في المخيم، فأحكموا إغلاقه، وتوقع أهل المخيم أيضاً أن يبحث الفدائي عن مخبأ في المكان الذي يعيش فيه، فقام الشباب بحلق رؤوسهم من أجل تضليل الجنود.
لكن التميمي خيب كل التوقعات.
كان في لا مكان. لا أحد يعلم كيف نجح في التخفي في القدس. وبعد أحد عشر يوماً ظهر من جديد أمام مستعمرة معاليه أدوميم حاملاً المسدس الصغير الذي استخدمه في عمليته الأولى.
قال للمحتلين إنه يطاردهم. لم يكن عدي مطارَداً، بفتح الراء، بل كان مطارِداً، بكسرها. لم يكسر الراء وحدها، بل كسر القواعد التي أرساها جيش الاحتلال. فالفدائي خرج من مخبئه وكسر الخوف واستعاد قضيته من أيدي اللصوص والحمقى الذين سطوا على حاضرها وشوهوا تاريخها بسلطة الفساد وهوان السلطة الوهمية.
هذا الوهج الذي ينطلق من جنين ونابلس والقدس ليس طفرة عابرة، إنه مسار جديد يبدأ وعلينا أن نقرأ دلالاته، وأن نتعامل معه بصفته لحظة تغتسل فيها عقولنا من زمن التحلل والاستكانة والغرق في الأوهام.
الحكاية لن تنتهي بموت بطلها.
عدي التميمي امتداد لإبراهيم النابلسي الذي كان امتداداً لرعد حازم الذي كان امتداداً لداود الزبيدي واللائحة تطول، فيمتد النسب وصولاً إلى خليل الوزير وفتحي الشقاقي وعلي أبو طوق وأسماء لا عدد لها.
وغداً سوف ننسى الأسماء التي ستذوب في اسم واحد هو الحرية. أقام المصريون أضرحة لحامد السلطان في كل القرى، أما الفلسطينيون فسيطلقون على كل شجرة زيتون اسم شهيد.
الزيتون ليس ضريحاً للموت، إنه الجذور التي تجدد الحياة وتتجدد بها.
*الياس خوري كاتب صحفي وروائي لبناني
موضوعات تهمك: