الأحلام الكبرى، التى أطلقتها يناير، ما زالت ماثلة فى المشهد العام تستعصى على أى إنكار. نعم، قد تنقضى الثورات دون أن تغادر أحلامها الوجدان العام.
قيمة يناير فى التاريخ أنها عكست الإرادة العامة التى لا سبيل لتحديها بقدر ما طمحت إلى الانتقال لعصر جديد أكثر عدلا وحرية وكرامة إنسانية
رغم القصة الأليمة، التى قوضت ثورة يناير، فإن أحلامها فى بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، لا دينية ولا أمنية، مدنية بالكامل، ما زالت تسكن الوجدان العام لأجيال المستقبل فيما حقائق العصور الجديدة تستدعيها إلى الواجهة مرة بعد أخرى.
* * * *
بقلم: عبدالله السناوي
فى السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» تلخصت الإرادة العامة فى طلب «الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة». عند نشر تلك الصياغة لأول مرة فى جريدة «العربى» أبدى مفكر سياسى معروف استغرابه قائلا: «لا يوجد فى العلوم السياسية مثل هذا التعبير»، قاصدا أن يقال «علمانية» بدلا من «مدنية».
كان تقديرى أن التوصيف الأول «ملغم سياسيا» لا يصنع توافقا عاما تحتاجه مصر وهى توشك أن تغادر مرحلة من تاريخها إلى مرحلة أخرى، وأن التوصيف الثانى يكفى ويزيد لمنع أى خلط بين ما هو دينى وما هو سياسى. بصورة أو أخرى استقرت تلك الصياغة فى الخطاب العام بما يشبه الإجماع.
لم يكن مستغربا أن تستقر بعد ذلك فى البناء الدستورى إثر ثورتى يناير/كانون الثاني (2011) ويونيو/حزيران (2013). المفارقة الكبرى أن قد جرى تفريغ محتوى طلب الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة مرتين:
الأولى؛ على يد جماعة «الإخوان المسلمين»، التى سعت لـ«أخونة الدولة» وبناء دولة دينية حين كسبت الانتخابات الرئاسية عام (2012).
الثانية؛ على يد أشباح الماضى بنفس الوجوه والعقليات التى بررت دولة الرجل الواحد فى العقود السابقة. لم تضرب ثورة يناير أركان نظام «مبارك» بغير انتظار، كان كل شىء يجرى فى بنية المجتمع والسياسة يومئ بمقدماتها.
بدا النظام فى عام (2005) كأنه استنزف طاقته على البقاء ومشاهد الانتخابات الرئاسية الهزلية أوحت بأننا قرب النهاية، لكن عمر النظام امتد لنحو خمس سنوات أخرى بفضل اتساع هامش الحريات الصحفية والإعلامية. كانت تلك حقيقة، فالحريات الصحفية والإعلامية رفعت سقف الآمال المعلقة على إصلاح النظام من الداخل. عندما تبددت أية آمال فى إصلاح النظام من الداخل بالتزوير الفاحش للانتخابات النيابية عام (2010) انفسح المجال واسعا للثورة.
هناك من توقع «ثورة جياع»، بالنظر إلى تزايد الاحتجاجات أمام المخابز ومستودعات أنابيب الغاز، أو «انتفاضة خبز جديدة» كما جرى فى انتفاضة يناير/كانون الثاني (١٩٧٧)، أو «حريق قاهرة آخر» على النحو الذى جرى فى يناير/كانون الثاني (١٩٥٢)، أو تغيير النظام بتدخل عسكرى كما حدث فى (23) يوليو/تموز (1952). لم يخطر ببال أحد إطاحته بانتفاضة شعبية مدنية تدعو إلى نظام ينسخ الماضى ويلتحق بعصره.
هبة يناير من خارج السياق السياسى، الذى اخترقت أحزابه وهمشت منابره. لم يكن يعنى تدجين السياسة أن النظام فى منأى عن عاصفة التغيير. اقتحمت مسرح الحوادث أجيال شابة جديدة بروح جديدة وخيال مختلف، أصابت وأخطأت، لكن روحها تعلقت بفكرة الثورة، التى حسمت خيارها قطاعات جماهيرية واسعة نالت المظالم الاجتماعية من أبسط حقوقها فى الحياة.
لعبت الحركات الاحتجاجية، وفى مقدمتها الحركة المصرية للتغيير «كفاية» و”الجمعية الوطنية للتغيير”، أدواراً جوهرية فى معارضة سيناريو التوريث للإبن والتمديد للأب وصنع مسار سياسى للغضب المتصاعد يتبنى التحول إلى الديمقراطية وبناء دولة مواطنة وعدالة وقانون. كانت النذر تتجمع فى الأفق المحتقن. لخص «مشروع توريث الجمهورية» من «الأب» إلى «نجله الأصغر» أزمات النظام كلها ووضعه مباشرة أمام النهايات المحتمة.
كان ذلك المشروع تعبيرا عن سطوة رجال الأعمال المتنفذين فى صلب القرارين الاقتصادى والسياسى بزواج بين السلطة والثروة. لم يكن ممكنا بأى حساب توريث الحكم بغير أثمان باهظة واضطرابات لا قبل لأحد بها.
فى السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» تلخصت الإرادة العامة فى طلب «الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة». عند نشر تلك الصياغة لأول مرة فى جريدة «العربى» أبدى مفكر سياسى معروف استغرابه قائلا: «لا يوجد فى العلوم السياسية مثل هذا التعبير»، قاصدا أن يقال «علمانية» بدلا من «مدنية».
لم يخترع أحد شعارات يناير، فقد نشأت من قلب المعاناة، تصدرها طلب الحرية السياسية، كما الحق فى رغيف الخبز تلخيصا مباشرا للعدالة الاجتماعية بأبسط معانيها. قيمة يناير فى التاريخ أنها عكست الإرادة العامة التى لا سبيل لتحديها بقدر ما طمحت إلى الانتقال لعصر جديد أكثر عدلا وحرية وكرامة إنسانية.
قبل الثورة تبدت حالة غضب بين الأجيال الجديدة وجماعات المثقفين وكل ما له قيمة فى البلد، استقطبت المشاعر العامة حتى بدا النظام كله فى العراء السياسى. رغم الاحتقانات السياسية والاقتصادية التى دعت الطبقة الوسطى والفئات الأكثر احتياجا إلى إعلان تذمرها فقد كان «مشروع التوريث» هو نقطة التفجير التى استدعت كل الغضب إلى كل الميادين.
لم يكن الجيش فى وارد الصدام مع الإرادة الشعبية لتمرير «التوريث»، أو الدفاع عن نظام فقد شرعيته. ولم يكن بوسع الأمن توفير أى ضمانات لتمرير هذه الخطوة الخطيرة دون اهتزازات عميقة قد تأخذ البلد إلى المجهول. فى لحظات النهاية بدا النظام بلا ظهير سياسى، فقد انهار حزب السلطة مع أول هتاف فى ميدان «التحرير». ما هو مصطنع يسقط فى كل اختبار. سقط «مبارك» لأن نظامه تقوض من الداخل دون حاجة إلى مؤامرة ولم يكن بوسعه الاستجابة لحقائق عصره وأولها التحول إلى دولة مدنية حديثة ديمقراطية وعادلة.
فى صلب ذلك الطلب رفض مزدوج وصريح لـ«الدولة الدينية» و«الدولة البوليسية» معا.
كان الدور الأمنى قد توسع خارج طبيعة مهامه وتدخل على نحو غير مسبوق فى الحياة العامة من البحث العلمى إلى اختراق الأحزاب إلى الاقتصاد ومشروعاته. تعمقت فجوات بين الأمن ومجتمعه، وكانت النتائج قاسية فى تجربة يناير.
كان هناك من يعتقد أن الاستغناء عن السياسة بمعناها المؤسسى الحديث يخفض من الصداع العام فى بنية الدولة ويوفر قدرا أكبر من الاستقرار. مرة أخرى كانت النتائج كارثية. لم يكن «الحزب الوطنى الديمقراطى» حزبا حقيقيا بقدر ما كان تجمعا لأصحاب المصالح يلتصق بالسلطة، أى سلطة. كان مزيجا من بيروقراطية الدولة ونفوذ الأمن.
فى لحظة الثورة بدا الانكشاف كاملا للبنية السياسية المصطنعة. دفع النظام ثمنا مستحقا لاختراق الأحزاب السياسية من داخلها، وتفجيرها فى بعض الحالات، ومنعها من ممارسة أى دور يتجاوز مقراتها. بقدر ما تكون الحياة السياسية صحية وقابلة لاكتساب الثقة العامة فإن قواعد النظم تتأسس على أرض صلبة. هذا ما يجب أن نتعلمه من تجارب التاريخ. إذا لم يكن الشعب طرفا مباشرا فى تقرير مصيره فإن كل شىء بالعراء السياسى وكل انهيار وارد.
لم يستمع أحد إلى الأنين الاجتماعى تحت ضغط العوز والحرمان رغم ادعاءات النمو الذى لم يسبق له مثيل وأعداد السيارات والهواتف المحمولة! ذهبت عوائد النمو إلى طبقة رأسمالية متوحشة توغلت فى الفساد وجنت أموالها من زواج السلطة بالثروة.
فى الغنى الفاحش بغير إنتاج حقيقى والفقر المدقع بغير أمل بالحياة تعمقت التناقضات إلى حدود استدعت قلقا داخل قطاع الأعمال الخاص نفسه. بعد ثورة يناير بما صاحبها من زخم شعبى يطلب الانتقال إلى عصر جديد وحقائق قوة مختلفة ارتفعت فرص بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، كما لم يحدث فى التاريخ المصرى كله. لم تكن هناك مشكلة فى إسناد رئاسة الدولة بالانتخاب الحر المباشر إلى شخصية مدنية غير أن تحرش جماعة «الإخوان المسلمين» بالجيش وسعيها لـ«أخونة الشرطة» وتغيير هوية الدولة أجهض التجربة كلها ودخلت مصر إلى منعرج جديد.
رغم القصة الأليمة، التى قوضت ثورة يناير، فإن أحلامها فى بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، لا دينية ولا أمنية، مدنية بالكامل، ما زالت تسكن الوجدان العام لأجيال المستقبل فيما حقائق العصور الجديدة تستدعيها إلى الواجهة مرة بعد أخرى.
*عبدالله السناوي كاتب صحفي مصري
المصدر: الشروق – القاهرة
موضوعات تهمك: