“الخبر الجيد لكي يكون جيدا يجب أن يأتي من البيت الأبيض وليس من أي مؤسسة حكومية أميركية أخرى”.
جاء الخبر الجيّد هذه المرة من البيت الأبيض فعلاً وعلى أعلى مستوى. فقد قام الرئيس الأميركي جو بايدن بالاتصال بالرئيس اللبناني ميشال عون وهنّأه على إنجاز اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل.
اتفاق يضمن مصالح نفطية ضخمة لإسرائيل مقابل مصالح اقتصادية كبيرة للبنان.
ها هو المتطرف القوي يلعب لعبته في إقرار نوع من السلام في المنطقة ولكن هذه المرة إنه إيران الأصولية وليس الليكود الإسرائيلي.
السياسة الإيرانية ومعها سوريا حافظ الاسد كانت أساسية في دعم تحرير الجنوب وليس في محض استخدام اللا استقرار والتفتت اللبنانيّين. وهو الطابع (اللااستقرار) الذي ساد لاحقا في استخدامات السياسة الإيرانية في لبنان.
المستفيد أمريكا: اتفاق يضمن المصالح الإسرائيلية وفي لحظة عزل أميركية لمصالح روسيا الغارقة في حرب أوكرانيا.
والمستفيد أوروبا المحتاجة إلى كل قطرة غاز قبل وبعد، خصوصا بعد، الحرب الروسية الأوكرانية. وليس صدفةً أن تكون شركة توتال الفرنسيةذات دور أساسي في مسار التفاهمات الداعمة لاتفاق الترسيم هذا.
سيتيح اتفاق الترسيم إعادة توسيع الاقتصاد اللبناني ويعطي مجالات للإنفاق “الإنمائي” على المناطق وهذا يعيد ضخ الدم في اوردة سياسية وإدارية واقتصادية جافة. أخيرا.. فعلها الدهاء والنفوذ الإيراني.
* * * *
بقلم: جهاد الزين
تعلّمتُ من زياراتي لواشنطن والاتصال ببعض الصحافيين الطويلي الباع في تغطية نشاطات الإدارات الأميركية وخصوصا من هيلين توماس أن الخبر الجيد لكي يكون جيدا يجب أن يأتي من البيت الأبيض وليس من أي مؤسسة حكومية أميركية أخرى.
جاء الخبر الجيّد هذه المرة من البيت الأبيض فعلاً وعلى أعلى مستوى. فقد قام الرئيس الأميركي جو بايدن بالاتصال بالرئيس اللبناني ميشال عون وهنّأه على إنجاز اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل.
دعونا من الكلام البروباغاندي. هذا اتفاق سلام اقتصادي ما كان له ليحصل من دون موافقة إيران. اتفاق يضمن مصالح نفطية ضخمة لإسرائيل مقابل مصالح اقتصادية كبيرة للبنان، مصالح يرغب الشعب اللبناني بأكثريته في لبنان والخارج أن تشكّل بداية عد عكسي للمستوى الذي بلغته أزمته الاقتصادية بل انهياره الاقتصادي شبه الشامل.
“تبيع” إيرانُ الاتحادَ الأوروبي وإسرائيل والولايات المتحدة موقفا استراتيجيا يضمن ضم لبنان إلى منظومة غاز شرق المتوسط ويوسع مصالح إسرائيل وموقعها في هذه المنظومة.
ها هو المتطرف القوي يلعب لعبته في إقرار نوع من السلام في المنطقة ولكن هذه المرة إنه إيران الأصولية وليس الليكود الإسرائيلي الذي وقّع عام 1979 على اتفاقية السلام (كامب دايفيد) مع مصر الرئيس أنور السادات وقام بالانسحاب من سيناء بعد تفكيك المستوطنات الإسرائيلية فيها وهو قرار لم يكن ليجرؤ على اتخاذه إلا المتطرف القوي مناحيم بيغن زعيم الليكود، كما كان يُقال في الصحافة الأميركيةيومها، مثلما لن يستطيع سوى المتطرف الإيراني اليوم “التوقيع” على اتفاق سلام اقتصادي بحري مع إسرائيل.
إنها لعبة لا يتقنها سوى الأقوياء والمتطرفين. وها هو التاريخ يدور دورته على الشاطئ اللبناني ويحل السيد علي خامنئي زعيم إيران مكان مناحيم بيغن زعيم إسرائيل المتطرف والقوي..
لكنْ مهلاً: هذا الاتفاق، ترسيم الحدود البحرية، هو اتفاق ينظر إليه الشعب اللبناني نظرة تأييد بل انتظار وهو يحتاجه بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وحدهم المتطرفون أو الديماغوجيون أو المتضررون في لبنان لا يؤيدون هذه “الطواعية” النادرة الإيرانية لمصالح حقيقيّة للشعب اللبناني بعد طول مغامرات إيرانية بالاستقرار والأمن والاقتصاد اللبناني.
ومن الجهة المقابلة بعد مفاوضات شاقة وصعبة مع إسرائيل حول الحدود البحرية مما لم يسمح لها باتفاق سهل في الحد الأدنى. وإذا استثنينا مرحلة المقاومة المسلّحة التي أدّت العام ألفين إلى تحرير الأرض اللبنانية المحتلة بغطاء من الشرعية الدولية المستندة منذ العام 1979 ا إلى القرار 425، فإن السياسة الإيرانية ومعها سوريا حافظ الاسد كانت أساسية في دعم تحرير الجنوب وليس في محض استخدام اللا استقرار والتفتت اللبنانيّين. وهو الطابع (اللااستقرار) الذي ساد لاحقا في استخدامات السياسة الإيرانية في لبنان.
دعونا نعدِّد المستفيدين الكبار في اتفاق الترسيم:
الولايات المتحدة لأنه اتفاق يضمن المصالح الإسرائيلية وفي لحظة عزل أميركية لمصالح روسيا الغارقة في حرب أوكرانيا.
أوروبا المحتاجة إلى كل قطرة غاز قبل وبعد، خصوصا بعد، الحرب الروسية الأوكرانية. وليس صدفةً أن تكون شركة توتال الفرنسيةذات دور أساسي في مسار التفاهمات الداعمة لاتفاق الترسيم هذا.
هكذا إذن تنضم إيران بتسهيلها و(حمايتها لاحقاً) لاتفاق الترسيم وعلى طريقتها إلى صديقتها تركيا رجب طيّب أردوغان الذي بادر إلى تعزيز العلاقات التركية الإسرائيلية عارضاً تسهيل مرور الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا. لكن الدهاء الإيراني هو الذي يختار أن يقدّم الترسيم كعمل متماهٍ مع المصالح العليا للشعب اللبناني. فالإيرانيون استخدموا الخط 29 في لحظة تعقيد في المفاوضات وهم الذين غطوا عمليةالتراجع عنه إلى الخط 23 في لحظة الانفراج.
حسناً، ما هو الثمن أو الأثمان الممكن أن تحصل عليها إيران من الولايات المتحدة الأميركية مقابل هذا التحول الهائل؟
علينا في مجال التحليل أن نراقب نوع العلاقات الاقتصادية غير المعلن والقائم بأشكال مختلفة بين طهران وواشنطن في العراق.
إنه “النموذج العراقي”: غض نظر أميركي عن المشاركة الإيرانية في مصالح الفساد العراقي النفطي والسياسي والأمني. هكذا يتفاهم الطرفان الأميركي والإيراني على تقاسم النفوذ والمصالح في العراق ولو اتخذ هذا التفاهم أحياناً شكلاً صدامياً هو جزء من “اللعبة” نفسها. لكنه تفاهم واقعي مستمر منذ العام 2003 تاريخ سقوط صدام حسين.
على الأرجح لبنان مع عائدات اتفاق الترسيم مع إسرائيل مقبل ليكون من حيث المداخيل مشروع عراق آخر ولو أصغر من الحجم العراقي. العائدات العراقية من النفط والغاز تتجاوز سنويا المائة مليار دولار مرشحة للازدياد بعد قرار مجموعة دول “أوبك+” خفض الانتاج مليوني برميل يوميا مما سيرفع جميع عائدات أعضائها.
لبنان المتلهِّف إلى عائدات الغازو – دولار لن يصل في أفضل السيناريوهات إلى الحجم العراقي. ولكن طبيعة اختراق النفوذ الإيراني لمواقع الدولة اللبنانية سيسمح بمشاركة المنظومة السياسية اللبنانية الفاسدة بأشكال مختلفة منها حجم “ميليشيات” القطاع العام اللبناني لتعزيزهذا النفوذ وهو ما تستفيد منه بأحجام أضخم في القطاع العام العراقي الذي يضم حسب المعلومات مئات آلاف الرواتب لوظائف وهميةتأخذها الميليشيات العراقية. ناهيك عن أشكال الاستفادة الأخرى التي تساهم في دعم إيران في وجه العقوبات الأميركية التي ترهق بل تسحق اقتصادها.
لنلاحظ إذا جاء التغيير العراقي بانتخاب عبد اللطيف رشيد رئيسا للجمهورية واختيار رئيس جديد للحكومة مؤشراً مهماعلى صفقة أميركيةإيرانية أن السؤال التالي صار مشروعاًا:
هل المنطقة في طور التغيّر؟ فعندما يحصل التحول الإيراني في زمن تراجع غير مسبوق في العلاقات السعودية الأميركية جعل صحيفة”هآرتس” الإسرائيلية تقول أمس الخميس أن العلاقات الأميركية السعودية لن تكون هي ذاتها بعد اليوم، لا بد ولو بشكل مبكر من التأمل العميق في شبكات المصالح الجديدة الآخذة بالارتسام.
سيحمل اتفاق الترسيم بالضرورة لاحقا توزيع حصص على مناطق الطوائف اللبنانية كما سيحمل معه تجديدا لمداخيل الطائفيّات اللبنانيةوأجهزتها الفاسدة. وهذا هو البعد الثاني للنموذج العراقي.
رغم كل ذلك سيتيح اتفاق الترسيم إعادة توسيع الاقتصاد اللبناني ويعطي مجالات للإنفاق “الإنمائي” على المناطق وهذا يعيد ضخ الدم في اوردة سياسية وإدارية واقتصادية جافة. أخيرا.. فعلها الدهاء والنفوذ الإيراني.
* جهاد الزين كاتب ومعلق سياسي
المصدر: النهار – بيروت
موضوعات تهمك: