الرقابة قيمة نبيلة بالنسبة لنا كمواطنين يجيدون الخضوع والخمول وإيماننا كبير بأن من أمن العقوبة أساء الأدب.
يسعدني أكثر لو وجدت الدولة وليست بلدية العاصمة مكانا منتجا لأكثر من عشرة آلاف موظف يعلن عمدتنا أنهم حمولة زائدة ولا يعملون.
الفساد الإداري ورفيقه الترهل يتسببان بعملية فتك بالناس ووقوع ضحايا لا قدرة للمجتمع والدولة على احتمال نتائجها إذا ما استمر الوضع على منواله.
يجب أن تضرب المؤسسات الرسمية مثلا طيبا قبل مخاطبة الناس فالقرائن عديدة على أن شرائح الموظفين المتطفلين بالرقابة أصلا متورطة أو تورطت بمخالفات قانونية!
لكن كلما لاحظت فنون المسؤولين المحليين في ابتكار أدوات ووسائل وتقنيات الرقابة على سلوك المواطنين تذكرت ذلك السؤال في فيلم “عدو الدولة”: من يراقب المراقبين؟
* * *
بقلم: بسام البدارين
وعدني عمدة العاصمة الحبيبة عمان بكاميرات أكثر قربا وأنظمة رقابة أشمل على الأرجح وصولا لهدف غير معلن إلا جزء منه فقط “عمان عاصمة خالية من ثاني أكسيد الكربون ومخالفات السير والسيارات”.
قد أشعر باعتباري عَمّانيا بامتياز من حيث الولادة والنشأة والتكوين والترعرع بالفخر والسرور والثبات لأن أجهزة الرقابة في مدينتي مبدعة حصرا أو تبدع أكثر في التقاط مخالفات السيارات والسائقين بحرفية قل نظيرها تفرزها ماكينة البيروقراط بغزارة وإنتاجية عالية عندما يتعلق الأمر بأي مخالفة عقوبتها غرامة مالية حصرا.
فخور أنا كمواطن يسكن العاصمة بهذا الإنجاز بكل حال ويسعدني على طريقة المتسوق الخفي أن يزيد عدد الكاميرات التي تلتقطني ومن كل الزوايا عندما أتجرأ على مخالفة قانون السير.
لكن يسعدني أكثر لو وجدت الدولة وليست بلدية العاصمة مكانا منتجا لأكثر من عشرة آلاف موظف يعلن عمدتنا الصديق أنهم حمولة زائدة ولا يعملون، وقد أصل في إعجابي إلى مستوى الفتنة لو أن المعادلة التي قالها لي يوما أحدهم تغيرت، وهو يضحك مشيرا إلى أن «عدد موظفي بلدية العاصمة أكبر بكثير من عدد المقاعد التي توجد في مؤسسات البلدية».
يمكن للإبداع المتوارث دوما في مجال الرقابة والمراقبة أن يبدأ بعد الآن بمراقبة الموظفين من حيث الأداء والأخلاق السلوكية أثناء الوظيفة بكاميرات مماثلة في المكاتب والأروقة وحتى في المقاهي، ويمكن توسيع مبدأ السيطرة والتحكم في الرقابة بحيث يشمل الرشوة والفساد والمحسوبية.
نصفق للرقابة التي تلتقط المجازفين بمصالح وحياة المواطنين في مخالفات السير، لكن قد نصفق بحرارة أكثر لو قام المراقبون في المجالس البلدية بواجباتهم فيما يتعلق بالأبنية القديمة التي بدأت تتساقط وتحتاج للكثير من العمل.
الرقابة، أي رقابة، قيمة نبيلة بالنسبة لنا كمواطنين يجيدون الخضوع والخمول وإيماننا كبير بأن من أمن العقوبة أساء الأدب، لكن كلما لاحظت فنون المسؤولين المحليين في ابتكار أدوات ووسائل وتقنيات رقابة على سلوك المواطنين تذكرت ذلك السؤال العجيب في فيلم عدو الدولة الأمريكي الشهير: من الذي يراقب المراقبين؟
حسنا الموظف العمومي له صلاحية مراقبتي لكن من يضمن لي مراقبته أثناء قيامه بواجبه في مراقبتي بحيث يلتزم هو بالقانون أو بحيث يمكن تصنيفه ضمن المؤهلين لصلاحيات الرقابة، خصوصا تلك التي تتبعها عقوبة أو غرامة أو تؤثر في حياة الناس.
حتى لا يتهمني كثيرون بالإفراط بالحماسة والمبالغة نحتاج إداريا لتعزيز ثقتنا بمن يراقبنا، ولتعزيز الثقة بالنظام الإداري المهني الذي يتولى الرقابة من أجل صالحنا… نريد أن نعي ونفهم باختصار بأن هذه العملية برمتها أولا ـ تتم في ضوء القانون ودولة المؤسسات، ثانيا- تطبق بعدالة وعبر موظفين يخضعون للرقابة بدورهم وبشكل منصف، وبما تيسر من المهنية والاحتراف، وضمن أسس بروتوكولات قانونية نظامية تضمن لي أن لا يساء استعمال صلاحيات «إخضاعي».
الإنجاز الحقيقي الوطني هو تقليص عدد مخالفات السير حتى اندثارها، ونمو ثقافة شعبية عامة تلتزم بالقانون، لا بل تحميه، وليس إظهار مساحات من الإبداع والابتكار في السيطرة والتحكم والضبط.
نعاني بصراحة كمواطنين من عدم وجود رقابة على من تتيح لهم وظائفهم صلاحية مراقبتنا لا بل نزعم بأن الدولة نفسها اليوم تعاني من تزاحم وكثرة صراعات المراقبين الذين يتصرفون أو ينطقون باسمها.
الإنتاجية الحقيقية بتقليص حجم العوائد المالية الناتجة عن مخالفات السير تحديدا وليس بزيادة تلك المبالغ حصرا لأن الزيادة هنا تؤشر على أزمة أخلاقية قانونية تحتاج للعلاج لا تنفع معها الكاميرات ولا أنماط السيطرة والتحكم خلافا لأن خسائرها الاقتصادية وطنيا طويلة الأمد.
ننصح كل من ينتقدون الشعب الأردني ويؤمنون بأن السيطرة عليه هي الواجب الأساسي، الاندفاع إداريا على الأقل ووطنيا في اتجاه معاكس، قوامه إظهار قدرة المؤسسات على تنقية كوادرها من الفاسد أو المتعسف باستخدام صلاحياته.
ننصح مجددا بأن تستعيد المؤسسات الرسمية مصداقيتها عند الناس بحيث لا يضطر عمدة العاصمة بعد الآن ورئيس بلديتها للتحدث فقط عن كاميرات رقابة وأنظمة إلكترونية أكثر لأن حوادث السير هي نتيجة في الواقع لسلوك اجتماعي منحرف ولنظام رقابة إداري مترهل.
ننصح أبدا ودوما بأن تضرب المؤسسات الرسمية مثلا طيبا قبل مخاطبة الناس، فثمة قرائن بالجملة اليوم على أن شرائح من الموظفين المتطفلين بالرقابة أصلا متورطة أو تورطت في مخالفات قانونية بعضها تحول الى كوارث وطنية ابتداء من سقوط بناية لأن مالكها يحفر ليتوسع، وانتهاء بتسريبات التسجيلات والوثائق، ومرورا بكل ما نعاني منه كشعب ودولة اليوم تحت عنوان الفساد الإداري ورفيقه الترهل حيث يتسببان بعملية فتك بالناس وبوقوع ضحايا لا قدرة للمجتمع والدولة على احتمال نتائجها إذا ما استمر الوضع على منواله.
حقا وفعلا وحصرا في مكاتب «العمدة»: من يراقب المراقبين؟
*بسام البدارين كاتب صحفي وإعلامي أردني
المصدر: القدس العربي
موضوعات تهمك: