لخّص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رؤيته للصراع المصيري مع الغرب، محدداً موقع روسيا، تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً، في أوروبا والعالم، إنطلاقاً من الحرب التي تخوضها اليوم في أوكرانيا.
بوتين بقراره ضم مناطق أوكرانية، يعمل على تغيير خريطة أوروبا.
بوتين يقاتل وظهره إلى الجدار وأنه يجعل من روسيا، كوريا شمالية، لكن مع فارق إنها بلد يمتد على مساحة 11 منطقة زمنية.
* * * *
بقلم: سميح صعب
في 37 دقيقة، هي مدة الخطاب الذي ألقاه في القاعة الفسيحة للقديس جرجس بالكرملين، لخّص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رؤيته للصراع المصيري مع الغرب، محدداً موقع روسيا، تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً، في أوروبا والعالم، إنطلاقاً من الحرب التي تخوضها اليوم في أوكرانيا.
بدا من خلال النبرة المفعمة بالغضب والمضمون المليء بالتحدي، أن فلاديمير بوتين يقطع الجسور مع الغرب “الشيطاني”، ويؤسس لمرحلة تتنكب فيها روسيا مهمة نقل “العالم إلى حقبة جديدة متعددة القطبية تدافع فيها الدول عن استقلالها وإرادتها ورغبتها في التنمية”.
وفي ما يتجاوز عملية ضم مناطق لوغانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون، أكد بوتين أن روسيا مستعدة لمزيد من التصعيد في مسعاها إلى تغيير النظام العالمي الذي نشأ عقب إنهيار الإتحاد السوفياتي، معتبراً أن الغرب “أنهى بإزدواجية معاييره المصممة للحمقى كافة الإتفاقات والمواثيق”، وأن روسيا لم تعد تقبل بتقسيم العالم إلى “عالم متحضر” و”عالم أول” و”عوالم أخرى”.
ووضع بوتين عملية ضم المناطق الأوكرانية الأربع في سياق إستعادة الحق التاريخي لروسيا “منذ كاترينا العظمى إلى قتال أجدادنا من أجل هذه المناطق في الحرب العالمية الثانية”. وعبر قرارات الضم، سعى بوتين إلى جعل الهجوم الأوكراني المضاد الجاري في الشرق والجنوب على أنه هجوم يستهدف أراضٍ روسية، وتالياً من حق روسيا الدفاع عنها “بكل الوسائل المتاحة”.
وهذا يعني أن الحرب مفتوحة على إحتمالات تصعيد أوسع بكثير مما شهدته في الأشهر الستة الماضية. وكانت إشارة ضمنية من بوتين إلى إحتمال اللجوء إلى السلاح النووي، عندما ذكّر بأن الولايات المتحدة، التي إستخدمت هذا السلاح ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية قد أرست “سابقة” في هذا المجال. أما لماذا يرفع بوتين التحدي في هذا الخطاب الفاصل بين مرحلتين في الحرب، فإن ذلك عائد إلى جملة من الأسباب، يمكن تلمسها بوضوح في سياق إدارة الولايات المتحدة للنزاع وإتخاذها من أوكرانيا منطلقاً لصراع طويل ينهك روسيا على المدى الطويل.
وإلا كيف يمكن تفسير ضخ هذه الكميات الهائلة من الأسلحة الأميركية المتطورة في الميدان، بحيث إنقلبت الموازين في الأسابيع الأخيرة لمصلحة كييف وباتت روسيا في موقف تراجعي، أرغم بوتين على إعلان التعبئة الجزئية والتلويح بالسلاح النووي. قرار التعبئة الجزئية كان هدفاً غربياً، بإعتبار ما سيتركه من إنعكاسات على الوضع الإقتصادي الروسي وعلى شعبية بوتين في الداخل، وهو ما عجزت عن فعله العقوبات الغربية الساحقة.
ويستعيد الإعلام الغربي هذه الأيام شواهد تاريخية عن تأثير قرارات التعبئة خلال الحرب مع اليابان عام 1905 وإبان الحرب العالمية الأولى عام 1914، في إطاحة القيصر نيكولا الثاني عام 1917. إذن الغرب يساند أوكرانيا لهدف مضمر هو تغيير النظام في روسيا عبر هز شعبية بوتين، من طريق إرغام بوتين على إتخاذ قرارات غير شعبية، مثل التعبئة العامة وتكبيد روسيا خسائر إقتصادية جسيمة.
ولا يمكن إلا التوقف عند رد فعل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على قرار الضم الروسي، عندما وقع مرسوماً يطالب فيه بالإنضمام السريع إلى حلف شمال الأطلسي، والأخطر من ذلك، رفضه الدخول في مفاوضات مع روسيا طالما بوتين موجود في الحكم وبالتالي يفضل التفاوض مع الرئيس الروسي الجديد. زيلينسكي المأخوذ بنشوة الإنتصارات التي يُحقّقها جيشه في الشرق والجنوب لا يطلق كلاماً في ظرف دقيق مثل هذا الظرف، من دون التشاور مع شركائه الأميركيين.
وإذا أمعنا النظر أكثر في الإستعدادات الأميركية للحرب الطويلة، من المفيد إلقاء نظرة على ما أوردته صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية الخميس الماضي، من أن البنتاغون يخطط لإنشاء قيادة عسكرية جديدة تتخذ ألمانيا مقراً لها كي تشرف على تنسيق إيصال المساعدات الأميركية والأوروبية إلى كييف. هذه القيادة ستكون مماثلة للقيادة التي أنشأتها أميركا خلال حربيها في أفغانستان والعراق. وتكشف الصحيفة أن الجنرال الأميركي كريستوفر دوناهيو، الذي دخل التاريخ من خلال الصورة الليلية التي وزعت له كآخر عسكري أميركي يغادر أفغانستان في آب/أغسطس 2021، هو نفسه من عهدت إليه وزارة الدفاع الأميركية تنسيق الكثير من المساعدات الأميركية لأوكرانيا في الأشهر الأخيرة!
والأسبوع الماضي، إستهدفت تفجيرات خطي “نورد ستريم 1 و2” لنقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا في بحر البلطيق. وبصرف النظر عن الجهة الفاعلة، فإن ما جرى كان بمثابة إنذار أول إلى أن الحرب تجاوزت أوكرانيا إلى جبهة أخرى، في وقت يترقب فيه الأوروبيون شتاء صعباً بسبب إنفطامهم عن الغاز الروسي، ويلجأون إلى تدابير قاسية لتقنين إستخدام الطاقة وللحد من إرتفاع فواتير الكهرباء، بينما منطقة اليورو تعاني معدلات تضخم غير مسبوقة، بدأت تنعكس فعلياً في نقمة المواطنين العاديين ونحوهم نحو الأحزاب اليمينية المتطرفة. ويجب التوقف كثيراً عند الفوز العريض لجورجيا ميلوني، المعجبة السابقة بموسوليني، في الإنتخابات التشريعية الإيطالية، الأحد الماضي.
وقبلها فوز اليمين المتطرف في السويد، بعدما كان حقق إختراقات واسعة في فرنسا، فلم يعد فكتور أوربان المجري، إستثناءً في أوروبا. يقول السناتور الأميركي الجمهوري ليندسي غراهام أن بوتين بقراره ضم مناطق أوكرانية، يعمل على تغيير خريطة أوروبا. ليتبعه المعلق الأميركي توماس فريدمان في عموده بـ”النيويورك تايمز” بأن بوتين يقاتل وظهره إلى الجدار وأنه يجعل من روسيا، كوريا شمالية، لكن مع فارق إنها بلد يمتد على مساحة 11 منطقة زمنية.
ويستشهد السفير الروسي لدى الولايات المتحدة أناتولي أنطونوف في مستهل مقال كتبه في مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية قبل أيام بقول لوزير الخارجية الأميركي سابقاً هنري كيسنجر الذي كتب في عام 2014 “إن شيطنة فلاديمير بوتين ليست سياسة، إنها عذر لغياب هذه السياسة”. قبل الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يُقسّم العالم إلى عالمين “الدول الديموقراطية” بقيادة الولايات المتحدة و”الدول الإستبدادية” بقيادة روسيا والصين، قسّم الرئيس جورج دبليو بوش العالم إلى محورين: “الخير” و”الشر”. عندما كان بوتين يلقي خطابه الخميس الماضي، كان الجيش الأوكراني يستكمل الطوق على ألاف الجنود الروس في مدينة ليمان على الجبهة الشرقية، التي يفتح سقوطها الطريق نحو إستعادة ليستيتشانسك وسيفيردونيتسك في منطقة لوغانسك.
بينما في واشنطن يعلنون عن إرسال المزيد من راجمات “هيمارس” والمسيرات إلى كييف، ويأخذون في الوقت نفسه على بوتين إستعانته بالمسيرات الإيرانية “شاهد-136″ و”مهاجر-6”. التصعيد ليس روسياً فحسب وإنما هو تصعيد غربي أيضاً، الأمر الذي يسهل معه القول إن الحرب تتجه إلى إتساع وقد تنطوي على الكثير من المفاجآت، إذا لم يقرأ بايدن قول بوتين بدقة عن “أن القوة هي التي ستحدد مستقبل النظام السياسي في العالم”.
* سميح صعب: كاتب صحفي لبناني
المصدر: 180 بوست
موضوعات تهمك: