يا للسخرية، إذ ينتصب فوق النعش تاجٌ تتصدّره “جوهرة كولينان” المنهوبة من جنوب أفريقيا. أين أنت يا فرانز فانون لتشاهد ما شاهدناه؟
ماذا عن اليوم التالي؟ عاد الناس لأعمالهم وعدنا نسأل عن تكلفة الجنازة المهيبة هل هي بالملايين أم بالبلايين؟ من سيدفعها؟ لا أحد يعرف في زمنٍ خارج الزمن.
ماذا عن شعوب نهبتها أو ذبحتها أو شرّدتها إمبراطورية كانت عزيزة على قلب هذه الملكة؟ ماذا عن فلسطين والهند وكينيا كي لا نعدد غيرها من بلاد آسيا وأفريقيا؟
هل تفوّهت الفقيدة ولو بكلمة واحدة عبر السنين توحي بالاعتذار ولو تلميحا عن جرائم الإمبراطورية؟ هل سمعنا منها كلمة واحدة عن وعد بلفور أو مجزرة أمريتسار؟
* * *
بقلم: د. طريف الخالدي
على امتداد حوالي عشرة أيام، تابعت أنا وزوجتي على شاشتَي «BBC» و«Sky» مراسم تشييع الملكة إليزابيث الثانية كأننا نشاهد مسلسلاً تلفزيونياً ساحراً.
غابت عن الشاشات أخبار العالم بأسره، ومنها أخبار حرب أوكرانيا وهي الموضوع المفضّل والطاغي على ما سواه في إعلام الغرب في يومنا هذا.
وأصاب الشعب البريطاني بأسره، وأصاب تلفزيوناته أيضاً، ما يشبه حالةً من التنويم المغناطيسي التي لا ريب وصلت ذبذباتها إلينا، رغم أننا لم نفقد، على ما أظن، إحساسنا النقدي لما يجري أمامنا ولسان حالنا: أين أنت يا رولان بارث وأين أنت يا أمبرتو إيكو لنستنير بعلمكما الغزير بالدلالات لتفكيك وتحليل ما نشاهد ونسمع؟
في عام 2002 صدر كتاب للمؤرخ البريطاني دافيد كاناداين بعنوان Ornamentalism (التزيّن؛ التبرّج) وهو عنوان يحاكي ويعارض كتاب إدوارد سعيد الشهير Orientalism (الاستشراق) ويحاجج أن علاقة بريطانيا بمستعمراتها لم تكن علاقة الأنا بالآخر، أي علاقة عنصرية، بل كانت علاقة طبقية فرضها المستعمِر على المستعمَر تبعاً للنظام الطبقي في بلاد الأول.
لن ندخل هنا في دحض هذه النظرية فقد نالها من سهام النقد، خاصة من المؤرخين الهنود ما يكفي، لكن ثمة ما يسترعي الانتباه في هذا الكتاب وهو أن المستعمِر، وفي صدد فرض طبقيّته على المستعمَر، عمد إلى التزيّن والتبرّج من خلال الاستعراضات الباهرة والعساكر المزهوة ببزّاتهم المزركشة وفرسانهم بخوذاتهم الجميلة والمرعبة معاً وهذه الصفوف المنتظمة التي تمر أمامنا كأنها رُصِفت رصفاً واحداً والموسيقى العسكرية الرنانة وإلى ما هنالك من مظاهر التيه والاختيال والعَظَمة.
ويبدو أن هذه الأبّهة فعلت فعلها مع الشعب الإنكليزي الذي خرج بمئات الألوف لمشاهدة هذا الوداع الأخير لملكتهم، لكن التلفزيون البريطاني لم ينسَ ولو للحظة أن يذكّرنا بأن «العالم بأسره» يشارك البريطانيين فجيعتهم.
أجل، العالم بأسره ينتحب. وإذ ينتقل ميكروفون المراسلة التلفزيونية للحديث مع شاهدٍ تلو الآخر، ينحصر الكلام بعبارات وكلمات لا تتعدى أصابع اليد الواحدة: تفانيها في تأدية واجباتها في المكان الأوّل، ثم يتبع ذلك بعض الصفات القليلة الأخرى كاللطف والأنس والأمومة.
تتكرر هذه الكلمات وتُستعاد كأنها “مانترا” mantra أو تعويذة سحرية يرددها الطفل والشيخ والشاب والشابة والعامة والخاصة فتضع الفقيدة في مصاف لا يبتعد كثيراً عن الألوهية.
وكثيراً ما كان الحديث عنها بصيغة الفعل المضارع، أي أنها تغلّبت على الموت وما زالت حيّة بيننا فيعجبها هذا الأمر أو ذاك ويروقها هذا الفعل أو ذاك. ما شاهدناه على شاشات التلفزة كان بمثابة الانجذاب لشعب بأسره.
لكن مهلاً: ماذا عن الشعوب التي نهبتها أو ذبحتها أو شرّدتها هذه الإمبراطورية التي كانت عزيزة على قلب هذه الملكة؟ ماذا عن فلسطين والهند وكينيا كي لا نعدد غيرها من بلاد آسيا وأفريقيا؟ هل تفوّهت الفقيدة ولو بكلمة واحدة عبر السنين توحي بالاعتذار ولو من بعيد عن جرائم هذه الإمبراطورية؟ هل سمعنا منها كلمة واحدة عن وعد بلفور أو عن مجزرة أمريتسار؟
والغريب في الأمر أن العديد من الألوف التي اصطفت لساعات طوال لوداع نعشها كانوا من الأفارقة والآسيويين الذين طأطأوا الرؤوس أمام نعشها. ويا للسخرية، إذ ينتصب فوق النعش تاجٌ تتصدّره “جوهرة كولينان” المنهوبة من جنوب أفريقيا. أين أنت يا فرانز فانون لتشاهد ما شاهدناه؟
والأغرب أن هذا النسيان الجماعي طغى على كل ما عداه في زمن تعاني فيه بريطانيا من إحدى أسوأ أزماتها المعيشية في تاريخها الحديث. نسي الجميع كيف أُجْبِرت الفقيدة وزوجها (ويا لسجلّه الحافل في الكلام العنصري!) على الوقوف أمام باب قصرها لوداع الأميرة ديانا وكيف ألقت في ما بعد كلمة تأبينيّه لأميرةٍ كان القاصي والداني يعلم أنها كانت لا تطيقها، وكيف انقلبت بريطانيا يومئذٍ ضد هذه الملكة بحيث باتت الملكيّة نفسها في خطر. وماذا عن ثرائها الفاحش ورفضها المستمر لدفع الضرائب العادلة عنه؟ وماذا عن هذه العائلة المالكة وفضائحها؟
لم نسمع من كل هذا سوى صوت واحد أو صوتين، فقد قال أحدهم للملك «نحن لم ننتخبك» وقال الآخر له «نحن نعاني تكاليف الطاقة وأنتم تقدمون هذه العروض الفخمة». وماذا عن الجمهوريين في بريطانيا والذين كانوا على الدوام يشكلون نسبة لا بأس بها من حزب العمال؟ أخفت شاشات التلفزة صوتهم بالكامل فلم نسمع لهم وشوشة، فالجميع، «وفي العالم بأسره»، يشارك في خلق هذه الأسطورة.
وماذا عن اليوم التالي؟ عاد الناس إلى أعمالهم ووضع البعض صورتها على زر طيّة الجاكيت وعاج الشقيُّ على قبرٍ يسائله وعدنا نسأل عن تكلفة هذه الجنازة المهيبة. هل هي بالملايين أم بالبلايين؟ ومن سيدفعها؟ لا أحد يعرف، بل لعله سؤال وقح مُبتذل في زمنٍ هو خارج الزمن.
* د. طريف الخالدي أكاديمي فلسطيني، أستاذ التاريخ بالجامعة الأميركية في بيروت
المصدر: الأخبار – بيروت
موضوعات تهمك: