دفعت سياسات ترامب اليمينية الشعبوية وتبنيه مبدأ «أمريكا أولا» فى زيادة الهوة بينه وبين نخبة واشنطن الجمهورية التقليدية مع استثناءات قليلة.
لا يمكن لهذه المراكز والمؤسسات النجاح دون توافر الموارد المالية التى يأتى معظمها من مؤسسات وشركات وتبرعات من جهات داعمة لسياسات ترامب.
لم يقدم معهد كليرمونت الحجج الفكرية للترامبية فقط، بل عمل نقطة انطلاق لمحاربة السياسات الليبرالية باعتبارها معادية لأمريكا وإرثها الثقافى والتاريخى.
اندفعت قوى اليمين الشعبوى الأمريكى لملء الفراغ وبناء مؤسسات بحثية جديدة تُخدّم على تصرفات ومواقف ترامب، وتُنظر وتضع إطارا فكريا وتاريخيا لما نادى به، وينادى به.
* * *
بقلم: محمد المنشاوي
عند ظهور دونالد ترامب على مسرح السياسة الأمريكية عام 2015 مرشحا للرئاسة، هاجمته نخبة المراكز البحثية الجمهورية المحافظة فى واشنطن وخارجها.
واصطف خبراء وباحثو تلك المراكز، التى منها على سبيل المثال لا الحصر، مؤسسة هيريتيج ومعهد أمريكان إنتربرايز، ومعهد هدسون، ومعهد هوفر، وغيرهم، وراء المرشحين التقليديين من أمثال السيناتور تيد كروز أو حاكم ولاية فلوريدا السابق جيب بوش.
وشارك الكثير من هؤلاء الخبراء فى التوقيع على عرائض تؤكد أن المرشح ترامب لا يملك مقومات أساسية ليصبح رئيسا وقائدا أعلى للقوات المسلحة الأمريكية.
ومع انتصار ترامب فى انتخابات 2016، ضاعت فرصة كبيرة على هؤلاء الخبراء والباحثين فى شغل مناصب فى إدارة جمهورية بعد بقائهم بعيدا عن البيت الأبيض والوزارات المختلفة أثناء سنوات حكم الرئيس الديمقراطى باراك أوباما.
وجدير بالذكر أن هناك ما يقرب من 4 آلاف وظيفة فى الحكومة الفيدرالية يتم شغلها من قبل المعينين السياسيين، وتكون المراكز البحثية على رأس مصادر توظيف هؤلاء الذين يشاركون الرئيس الفائز نفس الخلفية الأيديولوجية والفكرية.
وبالطبع كان ولا يزال دونالد ترامب سياسيا غير تقليدى لا ينتمى للنخبة السياسية التقليدية المألوفة لدى مراكز البحث الكلاسيكية المنتشرة فى الولايات المتحدة. ودفعت سياسات ترامب اليمينية الشعبوية وتبنيه مبدأ «أمريكا أولا» فى زيادة الهوة بينه وبين نخبة واشنطن الجمهورية التقليدية مع بعض الاستثناءات القليلة.
* * *
دفع ذلك بقوى اليمين الشعبوى الأمريكى لمحاولة ملء هذا الفراغ وبناء مؤسسات بحثية جديدة تُخدّم على تصرفات ومواقف ترامب، وتُنظر وتضع إطارا فكريا وتاريخيا لما نادى به، وينادى به. وتعمل هذه المؤسسات الجديدة على بناء هوية مميزة لها وسط مئات المراكز البحثية المنتشرة والمؤثرة فى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الأمريكية.
وبعد أكثر من سبع سنوات على ظهور ترامب ممثلا لتيار شعبوى يمينى، برزت عدة مؤسسات بحثية فاعلة ومؤثرة لأفكار هذا التيار. وتكرر هذه المراكز الجديدة، أو المراكز القديمة التى منحها ترامب قبلة جديدة للحياة، مقولات على شاكلة أن «النخب الأمريكية ليست متجددة وغير ذات كفاءة وغير مؤهلة»، كما يقول مايكل أنطون، المساعد السابق للأمن القومى لدونالد ترامب.
يعد أنطون من أبرز وجوه مركز كليرمونت، وينتظر أن يكون له دور سياسى كبير مع استمرار صعود التيار اليمينى. ومع توقع الحزب الجمهورى استعادة أحد مجلسى الكونجرس فى انتخابات نوفمبر القادمة، يأمل أنصار ترامب من المرشحين اليمينيين ترجمة طاقة حركتهم الناشئة إلى حصة من تلك السلطة. ولأنهم متحمسون لانتخاب ترامب يريدون لعب دور مستقبلى فى إدارته الثانية، أو الإدارات المستقبلية للمرشحين القريبين من سياسات ترامب مثل حاكم ولاية فلوريدا رون دى سانتيس، أو السيناتور تيد كروز، أو غيرهم.
ينشغل المسئولون السابقون فى إدارة ترامب، ومن تقربوا له ولدائرته على مدار السنوات الست الماضية، ببناء مراكز أبحاث فكرية لتوفير السياسات والبدائل، والأهم من ذلك، توفير كبار الموظفين للخدمة فى الإدارات الجمهورية مستقبلا.
يهدف هؤلاء لتوفير مئات الوجوه من الخبراء والباحثين ممن يتبنون سياسة «أمريكا أولا»، ومن لا يعارضون التشدد فى موضوع الهجرة والتضييق على من يدينون بالإسلام والأقليات، ومن لا يدعمون دورا أمريكا واسعا فى الخارج خاصة فى القارة الأوروبية أو الشرق الأوسط، ومن لا يرفضون فرض قيود واسعة على حركة التجارة العالمية والوقوف بحزم فى وجه الصعود الصينى المستمر.
* * *
على رأس تلك المراكز البحثية يجىء «معهد كليرمونت»، وهو مركز أبحاث يمينى مركزه الرئيسى فى ولاية كاليفورنيا. واستطاع المركز فرض نفسه بقوة فى السنوات الأخيرة فى الأوساط الجمهورية اليمينية، ونجح المركز فى إضفاء شرعية فكرية على المرشح ترامب عام 2016، ويبدو أنه نجح وبشدة فى مسعاه.
لم يقدم المعهد الحجج الفكرية للترامبية فقط، بل عمل نقطة انطلاق لمحاربة السياسات الليبرالية باعتبارها معادية لأمريكا وإرثها الثقافى والتاريخى.
ومن معهد كليرمونت خرج المحامى جون إيستمان، المنظر القانونى وراء محاولة ترامب التشبث بالسلطة بعد انتخابات عام 2020. ولدى المعهد دورية قوية ومؤثرة تسمى «عرض كليرمونت للكتب Claremont Review of Books، وعلى صفحاتها تم تمجيد الأفكار والسياسات الترامبية وصولا لدعم محاولات قلب نتائج انتخابات 2020.
ويروج مركز كليرمونت لسياسات يمينية محافظة داعمة لشكل الأسرة التقليدى، ومؤيدة بشكل كامل لاستكمال حظر الإجهاض. ويرفض المعهد دعم واشنطن الكبير لأوكرانيا، ويعتبرها قضية أوروبية لا تمس مصالح واشنطن المباشرة.
يعمل معهد كليرمونت على منح الفرصة للمفكرين اليمينيين الجدد لتلميع سمعتهم بعد الضرر الذى لحق بهم بسبب توفير الدعم الفكرى والنظرى لأنصار ترامب ممن حاولوا اقتحام مبنى الكابيتول يوم 6 يناير 2021.
* * *
لم يتم الاكتفاء بمعهد كليرمونت الذى أُسس منذ عام 1979، وجدد نفسه مع ظهور ترامب، بل ظهرت العديد من المراكز الأخرى لترجمة أفكار ترامب العشوائية إلى سياسات، نشأت مراكز فكر جديدة، ومن بين أكثر هذه المؤسسات تطورا مركز «البوصلة الأمريكية American Compass» والذى تأسس عام 2020.
من أهم المراكز كذلك «معهد أمريكا أولا للسياسة» و«مركز تجديد أمريكا» وهما يركزان فى أعمالهما على قضايا الهوية الوطنية والهجرة والتنوع العرقى والدينى فى الولايات المتحدة. فى حين تتبنى منظمة «أمريكا أولا القانونية»، التى أسسها ستيفن ميلر، المساعد السابق لترامب، قضايا الهجرة، إذ ترفع العديد من القضايا ضد إدارة جو بايدن بسبب سياساته لتخفيف لقواعد الهجرة.
ولا يتوقف جهود تلك المؤسسات على توفير الإطار النظرى فقط للأفكار اليمينية، بل تعمل على اجتذاب الكوادر وتطويرها، ولا سيما الشباب. ومن أبرز هذه الجهود «المؤتمر الوطنى للمحافظين»، الذى بدأ خلال إدارة ترامب، ويعقد سنويا.
ولا يجذب المؤتمر كبار المفكرين فى اليمين الجديد فحسب، بل وأيضا العديد من الساسة الطموحين مثل سيناتور ولاية ميزورى جوش هاولى.
لا يمكن لهذه المراكز والمؤسسات النجاح دون توافر الموارد المالية التى يأتى معظمها من مؤسسات وشركات وتبرعات من جهات داعمة لسياسات ترامب.
ولا تعانى هذه المراكز من أى ضوائق مالية خاصة مع تبنيها خطابا اقتصاديا قوميا وهو ما يدر عليها الملايين من جهات تصب هذه السياسات فى لب مصالحها المباشرة، والمالية فى الوقت ذاته.
* محمد المنشاوي كاتب صحفي في الشؤون الأمريكية من واشنطن
المصدر: الشروق – القاهرة
موضوعات تهمك: