الأزمة في بقاء الدولار أقوى عملة في سوق الصرف وعملة الاحتياطي المحبّذة لدى البنوك المركزية، وعملة التسويات والمدفوعات الدولية.
تتمحور جذور الأزمة حول اختلالات هيكلية بالمنظومة المالية ويُعد الدولار حجر الأساس فيها، ولا تتعلق بكورونا أو الحرب وستصبّ دوماً لصالح الدولار بالمحصلة.
خفض الدولار يزيد الإنتاج المحلي بأميركا ورفعه يزيد تدفق النقد نحو أميركا طمعاً بفائدة مرتفعة وفي الحالتين تواجه الدول الأخرى تضخما وزيادة الديون وخدمتها.
سيكون تحييد الدولار مكلفاً للعالم قبل أميركا بينما محاولات الصين وروسيا لاعتماد العملات المحلية في التبادل التجاري في بدايتها وبالكاد يُعول عليها في إنتاج بديل عالمي.
* * *
بقلم: مناف قومان
تصدّر الولايات المتحدة التضخم للعالم خلال فترة صعود الدولار أو هبوطه، وتلحق معظم الدول بركب مجلس الاحتياط الفيدرالي “البنك المركزي الأميركي” واتّباع ذات السياسة النقدية مع علمها المُسبق بالأضرار التي قد تصيب اقتصاداتها.
واليوم يشهد العالم جولة أخرى من رفع الفيدرالي للفائدة بعد صعود التضخم إلى 9.5% في أميركا؛ ما أدى إلى صعود الدولار إلى مستويات قياسية منذ ما يقرب من 20 عاماً.
لا جديد في سياسات الفيدرالي وطريقة تعاطيه مع الأزمات، ففي أعقاب الأزمة المالية عام 2007 أنفق البنك مع دول مجموعة العشرين حزماً مالية بقيمة 4 تريليونات دولار لإنقاذ الاقتصاد العالمي.
وفي عام 2020 وعلى إثر انتشار جائحة كورونا، ومن ثم الحرب الروسية الأوكرانية وما انبثق منها من أزمة في العرض واختناق في سلاسل التوريد وارتفاع في المواد الأولية، ضخت الحكومة الأميركية نحو 2 تريليون دولار في الأسواق لدعم الشركات والأسر من أصل 11 تريليون دولار ضختها مجموعة العشرين، دون إيلاء اهتمام لما ستسببه هذه الأرقام على الأسعار والأسواق!
فما إن انجلت الجائحة حتى بدأت معدلات التضخم بالارتفاع على مستوى العالم، لتناهز أعلى مستويات منذ عقدين وثلاثة عقود، فبلغت 9.5% في أميركا و9.1% في منطقة اليورو و10.1% في بريطانيا و71% في الأرجنتين و80% في تركيا.
واعترفت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين أخيراً بأنها كانت “مخطئة” بشأن المسار الذي سيسلكه التضخم في الولايات المتحدة، بعدما توقعت أن يكون التضخم ذا “مخاطر صغيرة” وخلال أشهر رُفعَت الفائدة على الدولار إلى 2.5% لتبدأ الأموال رحلة العودة إلى البنوك الأميركية تاركة وراءها الدول تئن في الأزمة.
أميركا مصدر الأزمات
خلال فترتي الركود والنمو التي يمر بها الاقتصاد، يحاول البنك المركزي تحريك معدل الفائدة لإعادة الأمور إلى طبيعتها، لكن مع الوزن النسبي لورقة الدولار في العالم سيكون الموضوع مختلفاً تماماً.
ففي فترات النمو حيث معدل الفائدة للدولار منخفض، ينتعش الاقتصاد الأميركي ويزداد الناتج المحلي الإجمالي نظراً لتوسع أعمال الشركات ونشاطاتها في البحث والتطوير لابتكار منتجات جديدة وتزداد قيمها المالية وترتفع معدلات التشغيل العام والاستهلاك، على خلاف الدول النامية التي تفتقر إلى العملة الصعبة لتأمين احتياجاتها الأساسية والكمالية.
إذ ترتفع معدلات الديون للمؤسسات والشركات والحكومات بهدف التوسع في المشاريع والأعمال ورفع معدلات النمو، وترفع معدلات الفائدة لجذب “المال الساخن” الباحث عن عوائد عالية وسريعة، والذي يسبب اختلالات في تركيبة الاقتصاد.
ومع بلوغ الذروة في الدورة الاقتصادية في أميركا، وارتفاع معدلات التضخم، سيلجأ البنك الفيدرالي إلى رفع معدلات الفائدة واحتجاز السيولة المالية لإدخال الاقتصاد في ركود وإعادة التضخم لما دون 2%.
ومع هذه السياسة سيكون العالم بمواجهة دولار قوي ذي عوائد مرتفعة يرتكز على إنتاج ضخم واقتصاد متنوع، فيما على الضفة الأخرى من العالم ستعاني الدول النامية تبعات ثقيلة مثل ارتفاع تكلفة رسوم الديون وارتفاع معدل التضخم والعجز التجاري وانخفاض الاستثمارات.
وذلك نتيجة رفع معدلات الفائدة المحلية لمسايرة الفائدة على الدولار وهبوط الاحتياطي الأجنبي ومؤشرات الأسواق المالية، ودخول الاقتصاد في حالة ركود، فضلاً عن تخارج “الأموال الساخنة” من الأسواق المحلية عائداً إلى البنوك والمؤسسات الأميركية.
ووقوف أي بلد نامٍ في وجه الدولار القوي وتجاهل التضخم سيعني السير عكس التيار والتسبب بأضرار على العملة المحلية والاقتصاد بالعموم، باستثناء تلك الدول التي تمتلك مقوّمات اقتصادية وسياسية وعسكرية ومشروع ضد الهيمنة الأميركية، تمكّنها من الصمود، كما يحصل مع الصين وروسيا.
إذاً، يكافح البنك الفيدرالي الأميركي منذ أشهر معدل التضخم المرتفع؛ عبر رفع الفائدة بعدما بذل جهوداً كبيرة في العام الفائت لتوليد الطلب وتشجيع المواطن الأميركي على الإنفاق من خلال ضخ تريليونات الدولارات في عروق الاقتصاد المحلي لإنقاذ الشركات والأسر.
وأثبتت التجارب السابقة نجاح الفيدرالي في هذه المهمة في نهاية المطاف، لكن في ذات الإطار يسبب الدولار القوي تصدير التضخم للعالم، ويرفع من رسوم خدمة الديون المستحقة بالدولار، وتكلفة السلع المسعّرة بالدولار،
حيث ارتفع مؤشر الدولار أمام سلة من العملات الرئيسية منذ بداية العام بنسبة 15%، وهي أعلى قيمة منذ 20 عاماً، وانخفضت عملات مثل اليورو والين والجنيه إلى مستويات قياسية، فضلاً عن عملات الدول الناشئة من تركيا إلى مصر وتشيلي، وهو ما يزيد من الأعباء التضخمية على كاهلها ويجبرها للحاق بركب الفيدرالي الأميركي واتباع سياسات نقدية متشددة.
سيجد المراقب للأزمة الحالية والأزمات السابقة أنّ جذور الأزمة متمحورة حول اختلالات هيكلية في المنظومة المالية نفسها والتي يعد الدولار الحجر الأساس فيها، وليست متعلقة بحدث كورونا أو الحرب، وستصبّ الأزمة دوماً لصالح الدولار بالمحصلة.
فخفض الدولار سيساهم في زيادة الإنتاج المحلي بأميركا، ورفعه سيساهم في زيادة التدفق النقدي نحو أميركا طمعاً بالفائدة المرتفعة، وفي كلتا الحالتين تكون الدول الأخرى في مواجهة التضخم وزيادة الديون أو رسوم خدمة الديون.
ما زالت هناك حلول
التخلص من هذه المعادلة ليس أمراً يسيراً على الإطلاق مع بقاء الدولار مُتربعاً على عرش أقوى عملة في سوق صرف العملات الأجنبية، وعملة الاحتياطي المحبّذة لدى البنوك المركزية، وعملة التسويات والمدفوعات الدولية، وسيكون تحييده مكلفاً للعالم قبل أميركا نفسها، فيما لا تزال محاولات الصين وروسيا لإحداث اختراقات بهذه المنظومة والاعتماد على العملات المحلية في التبادلات التجارية، في بدايتها وبالكاد يُعول عليها في إنتاج بديل عالمي.
وعطفاً على بدء، ربما من الأجدى للدول الناشئة عدم خوض معارك مجانية مع الدولار ووضع اقتصاداتها ومواردها عكس التيار، وعوض التفكير في تحييد الدولار وكسر المنظومة المالية العالمية، ربما من الأفضل العمل على برامج وسياسات تساهم بحماية العملة المحلية واتخاذ سياسات اقتصادية حمائية، وفي هذا السياق يمكن العمل على برامج متوسطة وطويلة المدى ترتكز على اقتصاد حقيقي تخفف التبعية للورقة الخضراء.
يمكن تصميم سياسات مالية ونقدية تعطي وزناً وأهمية أكبر للعملة والبيئة الاستثمارية المحلية على حساب العملة الأجنبية، مثل تكبيل “الأموال الساخنة” التي تلعب دوراً سلبياً في الأسواق المالية وإحداث فقاعات واختلالات هيكلية في الاقتصاد، وتوجيهها نحو قطاعات استثمارية مفيدة، وفرض سياسات تمنع هذا النوع من الأموال للتخارج إلا بعد مرور 5 سنوات على استثمارها، ما يجبر أي صندوق ومؤسسة وشركة استثمارية أجنبية على التفكير ملياً قبل الدخول في استثمار بهدف المضاربة والربح السريع.
ومن ثم الاهتمام أكثر بالصناعة المالية من بورصات ومصارف ومؤسسات وأوراق مالية، والتزام معايير الشفافية والسياسات النقدية لمنع حدوث تضخم داخلي، ومن ثم إعطاء الأولوية للمشاريع التي تحل الواردات وتوطّن الصناعات وتقلّص من العجز التجاري، في قطاعات الصناعة والزراعة والتكنولوجيا العالية، وزيادة مراكز وشركات البحث والتطوير وحاضنات الأعمال الكفيلة بدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة والريادية.
تجانس هذه العوامل مع بعضها سيبني نموذجاً اقتصادياً متماسكاً ضد الصدمات الخارجية وبيئة استثمارية متينة، وتجذب استثمارات حقيقية تساهم في زيادة قيمة الشركات المالية والناتج المحلي الإجمالي للبلد.
ولا بدّ من ذكر أنّ نموذجاً كهذا ليس من وحي الخيال، فهناك تجارب عديدة لدول مثل كوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة وكندا وغيرها استطاعت الانطلاق من سياسات اقتصادية محلية، من دون الاكتراث بأميركا وعملتها.
* مناف قومان كاتب صحفي سوري
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: