الانتفاضة، مهما كان زخمها، لا يمكن أن تستمر في حالة التشرذم الوطني التي يعيشها الفلسطيني!
الاحتلال الإسرائيلي الذي بلغ شأوا ملحوظا في القوة والجبروت والتسلح، يستنجد بسلطةٍ متهالكة لـ”حمايته” من شعب هذه السلطة!
إسرائيل طلبت من السلطة الفلسطينية العمل ضد المقاومين في شمال الضفة، وتحديدا في نابلس، حتى لا تسقط في أيدي المقاومة كما حدث في جنين.
المطلوب اليوم فلسطينيا تشكيل قيادة موحدة للانتفاضة على غرار ما تم في الانتفاضتين الأولى والثانية عامي 1987 و2000، واستلهام لتجربة “غرقة العمليات المشتركة”.
“إسرائيل” طلبت من أطراف دولية، في مقدمتها الولايات المتحدة، “الضغط!” على رئيس السلطة محمود عباس للإسهام في وقف موجة عمليات المقاومة بالضفة الغربية.
بدأت الانتفاضة الثالثة فعلا، ويبقى تأمين استمراريتها وتطويرها ورعايتها، قبل أن تنجح القوى المضادّة في تقديم العون للاحتلال لقتلها، باختراع لعبة جديدة تدخل فلسطين وشعبها نفقا مظلما جديدا.
* * *
بقلم: حلمي الأسمر
ربما لا يكون للدراما غير المعقولة في فلسطين هذه الأيام أي مثيل في الأحداث التي شهدها هذا العصر، فالاحتلال الذي بلغ شأوا ملحوظا في القوة والجبروت والتسليح، يستنجد بسلطةٍ متهالكة لـ”حمايته” من شعب هذه السلطة!
كوميديا سوداء مستحيلة، في ثنايا خبر بثته الإذاعة العبرية أخيرا يقول: إسرائيل طلبت من السلطة الفلسطينية العمل ضد المقاومين في شمال الضفة، وتحديدا في نابلس، حتى لا تسقط في أيدي المقاومة كما حدث في جنين.
ليس هذا فقط، فلكي تكتمل صورة “الكوميديا” إياها، يأتي في الأخبار التي تنقلها قناة 12 العبرية أن “إسرائيل” طلبت من أطراف دولية، في مقدمتها الولايات المتحدة، “الضغط!” على رئيس السلطة محمود عباس للاستنفار والإسهام في وقف موجة عمليات المقاومة في الضفة الغربية.
ونضع هنا خطين تحت تعبير “أطراف دولية”، حيث تشمل هذه أنظمة عربية لها كلمة في فلسطين، ومعنية بتقوية السلطة، وقمع المقاومة.
والحقيقة التي لا يريد أن يراها كثيرون أنه كلما ثار الشعب الفلسطيني دبّت “إسرائيل” الصوت طالبة الفزعة ممن يسمّونه “المجتمع الدولي” وفي مقدمته أميركا؛ الذي يتحرك فقط حين تكون ابنته المدللة في خطر.
والكارثة أن النظام العربي الرسمي عون لهذه اللقيطة، ولا يدرك هؤلاء وأولئك (أو يدركون لا فرق) أن هذا الشعب لن يهدأ قبل تحصيل حريته.
اللافت هنا أن استنجاد الاحتلال بسلطة رام الله أشبه ما يكون بالعبث الناشئ عن العجز، فهو يدرك أن من يستنجد بهم أكثر ضعفا من أن يقوموا بما هو مطلوبٌ منهم.
فوفق ما نقلت صحيفة معاريف العبرية عن المحلل العسكري للقناة العبرية 13، ألون بن دافيد، إن مرحلة ضعف السلطة الفلسطينية التي بدأت منذ نحو عامين وصلت الذروة بهذه المرحلة، معتبرًا أنه رغم “تقديس” القيادة المتنفذة في السلطة التنسيق الأمني، إلا أنه لم يحقق لها شيئا.
ويتطرق بن دافيد إلى أسباب تراجع السلطة الفلسطينية وعجز أجهزتها الأمنية عن فرض سيطرتها على مناطق الضفة الغربية المحتلة، فيقول إن ضباطا كبارا في أجهزتها الأمنية فقدوا ثقتهم بـ”إسرائيل” وباتوا يواجهون صعوبة في تنفيذ المهام الأمنية المنوطة بهم.
وأرجع ذلك إلى ما دعاه “الفشل الاستراتيجي للسلطة”، والمتمثل بتلاشي إمكانية إقامة دولة فلسطينية واستمرار الاقتحامات الليلية للمدن الفلسطينية. في المقابل، لفت بن دافيد إلى نجاح المقاومة في قطاع غزة في انتزاع تسهيلات من الاحتلال، من خلال استخدام القوة.
وهذا كله يعني أن طالب النجدة أضعف من يطلب نجدته، وحينما أعيته الحيلة طلب النجدة منه، وهي دائرةٌ عبثيةٌ تعكس بؤس حالة الاحتلال وعجزه عن اتخاذ أي خطواتٍ ذات مغزى لقهر إرادة الشعب الرازح تحت الاحتلال.
كما يعكس بؤسا أكثر تعقيدا في الداخل الصهيوني، الواقع تحت “احتلالٍ” من نوع آخر تمثله طبقة من رجال الحكم والسياسة، المتناحرين الفاسدين الباحثين عن أمجادٍ شخصيةٍ باتت تشكل تهديدا وجوديا لمستقبل الكيان الصهيوني.
وهذا ما ذهب إليه مؤخرا رئيس وزراء الكيان الأسبق، إيهود باراك، في مقال نادر نشره في صحيفة هأرتس في مايو/ أيار الماضي، إن الخطر الحقيقي الذي يهدد وجود إسرائيل، وهو “واحد ووحيد”، يمكن أن يتفاقم إلى درجة التهديد الوجودي، بالنظر إلى “تجربتنا التاريخية” (يقصد الرواية الإسرائيلية اليهودية إن خراب الهيكل الأول والثاني كان بسبب النزاعات الداخلية بين اليهود أنفسهم والانشقاقات في صفوفهم) هو “الأزمة الداخلية، والشرخ الداخلي والكراهية المتزايدة بين اليهود أنفسهم”. مشيرا إلى “التحريض المنفلت من دون أي كوابح، والانقسامات الداخلية المتعاظمة من سنة إلى أخرى”.
الحقيقة التي لا يريد أن يعترف بها خطاب العدو الرسمي أن الانتفاضة الثالثة باتت حقيقة واقعة، وأكبر من تغطيتها بتسمياتٍ عبثية، فهو كفّ مثلا عن تسمية ما يجري “أعمال شغب”، واعتمد بشكل شبه دائم تعبير “أنشطة إرهابية” و”تخريبية”.
وربما يكون التوصيف الحقيقي الأقرب إلى الواقع ما قاله رئيس جهاز الشاباك الصهيوني، رونين بار، في قوله “الوضع في الضفة الغربية أخطر مما نظن”.
يفرض هذا الواقع المتدحرج استدارة كاملة من القوى الفلسطينية الفاعلة في الميدان، فالانتفاضة، مهما كان زخمها، لا يمكن أن تستمر في حالة التشرذم الوطني التي يعيشها الفلسطيني، على صعيد النخب والفصائل.
ولا بد اليوم من استثمار الحالة الثورية المتأجّجة، وضعف سلطة رام الله غير المسبوق، باتجاه تحريك المياه الراكدة للقضية الفلسطينية، في ظل هجمات التطبيع العربي، وانشغالات القوى الحية في العالم بهمومٍ ومشكلاتٍ كبرى، تبعد الملف الفلسطيني عن أي اهتمام.
المطلوب اليوم فلسطينيا تشكيل قيادة موحدة للانتفاضة على غرار ما تم في الانتفاضتين الأولى والثانية عامي 1987 و2000، واستلهاما لتجربة “غرقة العمليات المشتركة” للمقاومة الفلسطينية، سواء في غزة أو جنين ومخيمها.
بدأت الانتفاضة الثالثة فعلا، ويبقى تأمين استمراريتها وتطويرها ورعايتها، قبل أن تنجح القوى المضادّة في تقديم العون للاحتلال لقتلها، من خلال اختراع لعبة جديدة تدخل فلسطين وشعبها في سرداب مظلم جديد.
* حلمي الأسمر كاتب صحفي من الأردن
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: