انفتح الخليجيون على السوق الصينية منذ أكثر من عقد، لكن ازداد التعامل التجاري مع بكين في السنوات الأخيرة.
تحتاج الصين لتموضع جيوسياسي في صراعات ثقيلة لا يمكن اختصارها في بحر الصين الجنوبي ولا تايوان مما يتطلب مزيداً من توسعة ساحة النفوذ.
تحتاج دول الخليج للتعامل مع عالم مختلف تفتقد فيه الحامي التقليدي على مستوى قدراته إزاء تنامي قدرات خصومه أو على مستوى نية الغرب تقليل حضوره لتبدل الأولويات.
تفرض الحاجة خليجيا اللجوء للعملاق الآسيوي المتنامي وهذه المسألة ستختبر عمق النظرة السياسية لدول الخليج أو ستؤكّد عدم مواكبتها المخاطر والمتغيرات الدولية.
الانحياز للمعسكر الغربي كما في السابق، مستبعد، والانحياز إلى المعسكر الصيني تماماً غير ممكن لوجود نفوذ غربي بدول الخليج، فالحياد والاستفادة من الجميع خيار مرجح.
* * *
بقلم: عباس الجمري
منذ اتباع الصين سياسة اقتصادية تقوم على الإصلاح، بدءاً بالزراعة، حينما مُنح المزارعون الحق في استغلال أراضيهم الخاصة، مروراً بدخول البلاد في التجارة العالمية عام 1979، وليس انتهاءً بالطفرة الاقتصادية عام 2001، تعمد إلى بناء استراتيجية مختلفة تماماً عما دأبت الإمبراطوريات في بنائه بغية التمدد والتحكم والسيطرة.
لم تدخل الصين من بوابة العسكر، ولا من بوابة السياسة، للولوج إلى الاقتصاد أو الهيمنة. أحد تلك الأسباب أنَّ اقتصادها كان منهاراً، والمجاعة تضرب أجزاء من البلاد قبل السبعينيات، فعمدت إلى قلب المعادلة، وفتحت بوابة الاقتصاد، عبر تطوير الزراعة، والدخول إلى عالم الصناعة والتمكن من سوق العالم، ثم خلق حيثية توافق حجم اقتصادها وجغرافيتها وديموغرافيتها، والأهم أنها توافق حجم امتدادها الحضاري العريق في الحكم والسياسة.
وإطلالة بكين تالياً على الصراع الدولي على موارد الطاقة والثروة لم يتأتَ بما يسمى “القوة الغاشمة”، كالتي انتهجتها الولايات المتحدة استراتيجية ثابتة منذ انتهاء الحرب الباردة وتسيّد القطب الواحد، قبل ضموره مجدداً بفعل بروز قوى مختلفة إقليمية وعالمية تنافس واشنطن في كل شيء، بما في ذلك القوتان العسكرية والاقتصادية اللتان تُعَدّان أكثر الأدوات استخداماً لدى إدارة البيت الأبيض في السياسة الخارجية.
ومن الممكن أن نسمي الاستراتيجية الصينية “الاستراتيجية الناعمة” التي تتجنّب الاصطدام لبناء منظومتها الاقتصادية التي ستهيمن عما قريب على معظم الأسواق العالمية في معظم القطاعات، وستتوسع في الجانب الخدمي الذي يعد مرتكزاً لتسيير السوق والمصارف والقنوات المالية والاقتصادية.
ولأن إجمالي حجم الاقتصاد الصيني لامس 18 تريليوناً عام 2021، فهو يزحف ليكتسح حجم الاقتصاد الأميركي البالغ 20 تريليوناً. هذا الاحتدام بين العملاقين الاقتصاديين يتطلب مزيداً من التوسع والتحالفات في المال والأعمال والطاقة والتبادل التجاري.
لم يكن الخليج بمنأى عن ذلك الاحتدام الواسع الذي دأبت الصين فيه أن تكون أكثر هدوءاً وأشد عملاً، من خلال تقديم عروض مغرية في مسائل التجارة والنقل والخدمات، وفي تطوير البنى التحتية وتطوير القطاع الصناعي.
انفتح الخليجيون على السوق الصينية منذ أكثر من عقد، لكن ازداد التعامل التجاري مع بكين في السنوات الأخيرة، وبلغ الميزان التجاري عام 2020 بين الصين ومجموع مجلس التعاون الخليجي ما يتخطى حاجز 160 مليار دولار، 70 مليار دولار منها سلع صينية استوردتها دول الخليج، و90 صادرات خليجية إلى الصين تمثّل معظمها في سوق الطاقة.
وتدرك دول الخليج أن للتعاون الاقتصادي دوراً فعالاً في السياسة، وهي تقف بين صديق استراتيجي يسير في قوس النزول، هو الولايات المتحدة الأميركية، وخصم لدود يسير في قوس الصعود، هو الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لذلك، من المهم قراءة السيناريوهات للعلاقة بين الصين ومجلس التعاون الخليجي.
قراءتان لعلاقة الصين لدول الخليج
الأولى: الصين بيضة القبان لدول الخليج
التعاون التجاري والمالي المتصاعد بين الدول الخليجية والصين أعقبته محادثات في شؤون أخرى، فالسعودية تستورد صناعات صاروخية من بكين، وتحرص الإمارات العربية المتحدة على استيراد أنواع مختلفة من الدرون العسكري، ما يؤشر بوضوح إلى أن التوسع في فتح مجالات التعاون بين الخليج والصين لا ينحصر في مصلحة الطرفين الاقتصادية.
فهناك ما هو أشبه ببناء استراتيجية خليجية تفضي إلى جعل الصين “بيضة القبّان” في علاقة الخليج بغرمائه في المنطقة أو أصدقائه الغربيين، بمعنى أن الخليجيين يريدون أن يفتحوا نافذة على الخارجية الصينية ليناوروا من خلالها في علاقتهم بالغرب أو بإيران وتركيا، فالوزن الاقتصادي الهائل للصين والثروة البشرية لديها والموارد والسلع التي تنتجها كلها تؤثر في المناورة السياسية، ومثال على ذلك ما سرّبته صحيفة “وول ستريت جورنال” قبل أشهر عن عزم الرياض على بيع النفط للصين بعملة “اليوان” الصيني، وهذا في سياق حرب العملات التي أفرزته العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وهذا ينعكس على السياسة على نحو واضح لا يمكن التقليل منه.
الثانية: التبادل التجاري المنفرد من دون رؤية موحّدة
القراءة الثانية تقول إن دول الخليج في علاقتها بالصين، وإن كانت مساحتها في ازدياد وبوتيرة سريعة، إلا أنها لا تأخذ شكل التكتل الخليجي ذي الاستراتيجية الواضحة، بل يجري مع كل دولة خليجية منفردة بمعزل عن الأخرى، ما يؤكد، بحسب هذه القراءة، أن الخليج يفتقد إلى التوافق الاستراتيجي إزاء الصين الذي يمنحه القوة السياسية تالياً،.
أي إن التبادل التجاري الواسع بين الصين والخليج لا يمكن أن يستغله الأخير، لأن هذا التبادل مبنيّ أصلاً على مصالح اقتصادية وتجارية محضة من جهة، ومنفردة من جهة أخرى، وقد تنظر كلّ دولة من دول الخليج إلى الصين بعين مختلفة على الصعيد السياسي.
دوافع الصين قد تغير المعادلة
هناك مرجحات لكلّ قراءة، لكن القراءة الثانية هي الأقرب إلى الواقع الحاضر، إذ لا يبدو في الأفق أي سياق موحّد للخليج ككتلة واحدة في موضوع علاقته بالصين، ويبدو فعلاً أن التبادل التجاري، وحتى التعاون في الجنبات الأخرى، كشراء منظومات دفاعية أو مسيّرات أو ما شابه.
يأتي في هذا السياق، وما من استراتيجية يمكن أن تستخدمها الدول الخليجية لمصلحة سياساتها الخارجية، لكنّ هناك عاملين قد يغيران هذا الأمر، ويقربان الدول الخليجية إلى القراءة الأولى، أي يقربها إلى بناء استراتجية تجعل الصين ذات تأثير إيجابي في سياساتها الخارجية.
العامل الأول: أن من مصلحة الصين نفسها أن تجعل التكتلات الدولية تقيم لها وزناً، بل من أحد أهداف مشروع طريق الحرير مثلاً هذا الهدف.
ولأن دول الخليج من المصدّرين الأساسيين في سوق النفط والغاز، فسيدفع ذلك الصين إلى أن تقدم الإغراءات بمُلاءتها الهائلة في الصناعة والتجارة، وخصوصاً في قطاع التكنولوجيا، لاعتماد بكين عاصمةَ قرار مهمة ووسيطاً جديداً ولاعباً مختلفاً يمكن الاستفادة منه، فإذا نفث التنين في صراعه مع الغرب بعضاً من بأس جديته في الملفات المتنازع عليها، صار لزاماً على الدول الصغيرة عموماً أن تنحاز أو تقف موقف الحياد.
وكل ذلك محسوب بدقة، فالانحياز إلى المعسكر الغربي على نحو تام، كما كان في السابق، مستبعد، وهو ما سأذكره في العامل الثاني، والانحياز إلى المعسكر الصيني تماماً غير مقدور عليه لوجود نفوذ غربي ما زال يعمل عمله في دول الخليج، فالحياد والاستفادة من الجميع خيار مرجح.
العامل الثاني: العامل الدولي نفسه بما يشهده من صراعات مصيرية، سواء في ساحة الاقتصاد أو السياسة أو العسكرية، وهو يشي بأن الغرب لا يمكن التعويل عليه مثلما كان من ذي قبل.
صحيح أن الغرب لا يزال مسيطراً على المال والأعمال في العالم، وأن شركاته العابرة للقارات لا تزال تعمل عمل مصاص دماء لدول العالم، إلا أن أوج هذه السيطرة خفت وذهب بريقها، وهي إلى تراجع، وإن اختلف تقدير مدى سرعة ذاك التراجع، إلا أن العالم لم يعد كما هو في مطلع هذه الألفية.
وحاجة الصين تالياً إلى التموضع الجيوسياسي، خصوصاً في صراعات ثقيلة لا يمكن اختصارها في بحر الصين الجنوبي ولا تايوان، تتطلب مزيداً من توسعة ساحة النفوذ.
وهناك حاجة خليجية إلى التعامل مع عالم مختلف تفتقد فيه هذه الدول الحامي التقليدي لها شيئاً فشيئاً، سواء على مستوى قدراته إزاء تنامي قدرات خصومه أو على مستوى نية الغرب نفسه تقليل حضوره لتبدل الأولويات.
فإن تلك الحاجة تفرض على حوض الخليج اللجوء إلى العملاق الآسيوي المتنامي، وهذه النقطة تحديداً، إما ستختبر مدى عمق النظرة السياسية لدول الخليج، وإما ستؤكّد عدم مواكبتها المخاطر والمتغيرات الدولية كما يجب.
* عباس الجمري كاتب وباحث بحريني
المصدر: الميادين
موضوعات تهمك: