العالقون في الزمن

محمود زين الدين4 سبتمبر 2022آخر تحديث :
الزمن

طوبى لمن دخل متاهة الزمن وعرف كيف يخرج منها بفكر جديد.
ما زلنا عالقين في البحث عن مفاهيم الحكم الرشيد، نريد أن نخترع العجلة فقط لأننا لم نكن شهودًا على إنجازها.
هناك شعوب تنمو وتزدهر وشعوب عاجزة عن ذلك تعيش في تكرار أبدى، تنتهي لتبدأ من حيث كانت وكأنها عالقة في الزمن.
في كل دولة بالعالم العربي الشعوب عالقة في ثنائي الثورة والاستقرار والحكام عالقون في حق الملوك الإلهي ويعدّون أي تمرد أو معارضة أو جدل حول أدائهم إرهابا.
الزمن لن يكون في صالحك إلا إذا تعلمت دروسه وخبراته التي يقدمها للجميع وطورت ذاتك لتلائم تغيراته، لكن كثير منا يعيش حياته وكأنها مقطع زمني متكرر دون أن يتعلم شيئًا.
* * *

بقلم: مي عزام
التكرار الأبدي
هل التاريخ يكرر نفسه فعلا؟ أم هناك شعوب تنمو وتزدهر وشعوب عاجزة عن ذلك تعيش في تكرار أبدى، تنتهي لتبدأ من حيث كانت وكأنها عالقة في الزمن.
فكرة “العالقون في الزمن”، قدمتها السينما العالمية في العديد من أفلامها، وأتذكر أكثر أفلام هذه النوعية تأثيرًا وإلهامًا، وهو فيلم Groundhog day، وهو أمريكي إنتاج 1993، وبطله مذيع طقس ترسله قناته المحلية لتغطية الاحتفال بيوم جرذ الأرض الذي يتنبأ بقدوم فصل الشتاء.
هذا المذيع شخصية نرجسية ناقم على حياته والناس، فينتقم منه الزمن بسجنه لسنوات في يوم الاحتفال، يتكرر اليوم بتفاصيله مع اختلاف النهايات، حتى يكتشف أخطاءه ويبدأ في تغيير ردود أفعاله ويصبح مع التكرار شخصًا آخر، تنكسر لعنة التكرار الأبدي ويخرج من عباءة “سيزيف”، ويسترد حياته الطبيعية ولكن هذه المرة بشخصية أخرى تطورت بفضل التعلم والخبرة المتراكمة.
الرسالة هنا، هو أن الزمن لن يكون في صالحك إلا لو تعلمت دروسه وخبراته التي يقدمها للجميع، وطورت ذاتك لتلائم تغيراته، لكن نسبة كبيرة منا تعيش حياتها وكأنها مقطع زمني متكرر دون أن تتعلم منه شيئًا.
هناك شعوب تتعلم من أخطائها كما فعل الشعب الألماني والياباني بعد الحرب العالمية الثانية، وهناك شعوب ما زالت عالقة في الماضي الذي يحكم حاضرها.
أما المستقبل فهو سؤال تعجز أمامه، تعيد تكرار الأخطاء دون بادرة تغيير واحدة وكأنها عاجزة عن إيجاد معول تكسر به السلسلة التي تربطها كرهينة في قاع الزمن المنسي في كهف الإنسانية، تجري وتلهث وتثور وتدور لتعود لنقطة البداية وكأنها حبيسة لعنة لا أحد يملك شفرة حلها.
كسر لعنة النظام العالمي
هذه الأفكار تداعت في ذهني، وأنا أتابع المشهد العالمي والمحلي، واضعًا سؤالا على الطاولة كمحاولة لفهم لماذا أقدم قيصر روسيا الجديد على غزو أوكرانيا؟ هل ما فعله بوتين في أوكرانيا هو تكرار لغزو هتلر لبولندا، الشرارة التي أشعلت حربًا عالمية كبرى.
أم أن ما فعله بوتين كان محاولة للانفلات من هيمنة الغرب المتكررة منذ ما يقرب من أربعة عقود؟ بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق، هل أراد بوتين التحرر من لعنة التكرار الأبدي؟
وقرر كسر السلسلة بتغيير أذهل الجميع وشنق عمدًا الاستقرار العالمي على باب الأمم المتحدة، لأنه يعد أن هذا الاستقرار هش، وليس سوى أكذوبة ولعنة.
انتقلت من أوكرانيا إلى عالمنا العربي، حيث أتابع عن كثب كبواتنا المتكررة، ما زلنا عالقين في البحث عن مفاهيم الحكم الرشيد، نريد أن نخترع العجلة فقط لأننا لم نكن شهودًا على إنجازها.
في كل دولة من دول العالم العربي، الشعوب عالقة في ثنائي الثورة والاستقرار، والحكام عالقون في حق الملوك الإلهي ويعدّون أي نوع من التمرد أو المعارضة أو حتى الجدل حول أدائهم ذنبًا وخطيئة لا تقل عن خطيئة آدم الأولى، الأكل من الشجرة المحرمة، وعادة يكون عقاب من يأتي بهذا الذنب الفاحش أما الخروج من جنة الوطن أو دخول جحيم سجون الوطن!
من 50 سنة
منذ سنوات، كنت أعمل في إحدى المؤسسات الصحفية المصرية الكبرى، كنت مسؤولة عن زاوية يومية بعنوان “من 50 سنة”، وكان مصدرها أرشيف المؤسسة بمختلف إصدارتها من جرائد ومجلات، وكانت أولوية النشر للموضوعات التي ما زالت تحتل حيزًا في تفكيرنا رغم مرور نصف قرن من الزمان.
وأذكر يومًا، حضرت فيه زميلة من قسم “الشؤون الدينية والأزهر” تشكو من أن خبر تم نشره باسمها في الصفحة الدينية بالجريدة، تم نقله حرفيًا وإعادة نشره في زاوية “من 50 سنة”!
وكان الخبر يتعلق بفتوى يحلل فيها مفتي الديار المصرية المشروبات الغازية ومنها مشروب الكوكاكولا، وهو الخبر نفسه الذى نشر في زاوية “من 50 سنة”، لكن باسم مفتى ذلك الزمان، وتم استدعاء المحرر المسؤول عن الخبر، الذى برأ ساحته وأحضر صورة فوتوغرافية لصفحة من مجلة “آخر ساعة” منشور فيها الخبر وتاريخه يعود لخمسين عامًا مضت.
أمر كان مدهشًا حينذاك، وكان معناه ببساطة أننا ما زلنا عالقين في الزمن، نسأل أسئلة الماضي ونعطي ظهورنا للحاضر والمستقبل.
أتذكر شكوى الزميلة في حق محرر “من 50 سنة” رغم مرور سنوات، وكيف أنها لم تتخيل أن ما كتبته سبقها إليه صحفي من خمسين عامًا، لم تستطع أن تتخيل السرداب الذي تعيش فيه مع أكفان الماضي وأنها لم تخرج بعد من كهف أفلاطون، وما زالت تعيش على أوهام ظلال تتراقص على حوائط عالمنا المغلق الضبابي، لم تستطع أن تقبل أن ما تقدمه، وغيرها، ليس سوى جثث بُليت يعاد تكفينها بقماش جديد، لكن رائحة العفن تملء المكان والزمان.
طوبى لمن دخل متاهة الزمن وعرف كيف يخرج منها بفكر جديد.

* مي عزام كاتبة وصحفية مصرية

المصدر: الجزيرة نت

موضوعات تهمك:

عن الزمن الساكن فلسطينيا والمتحرك إسرائيليا

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة