كلنا في الهم شرق وكلهم في الرياء غرب
- هجمة قمعية ممنهجة في السعودية ضد أصحاب الرأي من مفكرين واقتصاديين وكتاب وحقوقيين.
- التحديث السعودي تناقض جوهريا مع تواصل حرب اليمن البشعة والهجمة القمعية الممنهجة ضد مفكرين ونشطاء لا يرفضون التحديث.
- تورط الحكومة السعودية في الممارسات العنيفة والقمعية لا يتناقض جذريا مع أحوال بلدان العرب الأخرى.
- كلنا في هم الحروب والاستبداد وانتهاكات حقوق الإنسان والحريات شرق.
- من تجاهل قتل آلاف الأطفال والمدنيين في اليمن (رحمهم الله) أن يتجاهل قتل جمال خاشقجي (رحمه الله)!
بقلم: عمرو حمزاوي
وفقا للقوانين الناظمة لصادرات السلاح الألمانية، يحظر تصدير العتاد الحربي للدول المتورطة في حروب أو صراعات عسكرية كما يحظر تصدير السلاح إلى الحكومات التي يثبت عليها انتهاك حقوق الإنسان والحريات.
ويراقب البرلمان الفيدرالي (بوندستاغ) التزام الحكومة الألمانية بتلك القوانين وعدم مخالفتها لمقتضياتها. رغم ذلك، طالبت حكومة المستشارة أنجيلا ميركل البرلمان بإقرار صادرات سلاح إلى السعودية بقيمة إجمالية بلغت 254 مليون يورو (تقريبا) في 2017 و417 مليون يورو في 2018.
وكان أن أقر البرلمان الديمقراطي العتيد.
ومن المعروف أن حكومة السعودية متورطة في حرب على اليمن منذ 2015 (تحت راية التحالف العربي الذي تقوده السعودية ومعها الإمارات العربية المتحدة).
وأن الحرب هذه أسفرت عن قتل آلاف الأطفال والمدنيين وفرضت أوضاعا صحية خطيرة على المواطنين ودمرت البنى التحتية للبلد العربي الفقير.
ومن المعلوم أيضا أن انتهاكات حقوق الإنسان والحريات لم تتراجع في السعودية بين 2015 و2018، بل دفعها التعقب الممنهج لأصحاب المواقف والآراء المعارضة إلى هوايات غير مسبوقة.
كان أمر الحرب وأمر الانتهاكات معروفين ومعلومين للدنيا بأسرها قبل قتل الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بمدينة إسطنبول التركية.
وظلا معروفين ومعلومين رغم محاولات متكررة لوسائل الإعلام التي تسيطر عليها إما أموال الحكومة السعودية أو أموال حلفائها ممارسة الإنكار والتضليل هنا والتجميل هناك.
ومهما وظفت الخزانة السعودية لإنفاق ملايين الدولارات على حملات في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا للدعاية لحكام الرياض والترويج لسياسات التحديث الاقتصادي والاجتماعي والثقافي التي زعموا تطبيقها بين 2015 و2018.
لا أنكر أن شيئا من المضمون التحديثي حضر في بعض سياسات السعودية خلال السنوات الماضية مثل البحث عن تجاوز لعنة الاعتماد الأحادي على النفط كمصدر للثروة والموارد الاقتصادية.
والتفكير في تحويل بعض المؤسسات الاقتصادية الكبرى من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة (أرامكو مثالا)، وتغيير بعض الممارسات الرجعية من شاكلة منع النساء من قيادة السيارات وحظر تشغيل دور العرض المسرحي والسينمائي.
إلا أن المضمون التحديثي للسياسات السعودية تناقض جوهريا مع مواصلة التورط في حرب بشعة على اليمن، ومع الهجمة القمعية الممنهجة ضد أصحاب المواقف والآراء المعارضة من مفكرين واقتصاديين وكتاب ومدافعين عن حقوق الإنسان وعلماء دين الذين لم تكن أغلبيتهم برافضة للتحديث الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
لا أتباكى على ديمقراطية مزعومة انقلبت عليها الحكومة السعودية بين 2015 و2018، ولا أتجاهل أبدا الواقع العربي والشرق أوسطي المحيط بها والذي تسجل به انتهاكات حقوق الإنسان والحريات حضورا كارثيا وتغيب عنه في المجمل التحولات الديمقراطية.
لا، لم تكن السعودية ديمقراطية قبل السنوات الأخيرة ولم يحط بها اتحاد شرق أوسطي للديمقراطيات خفاقة الرايات.
بل أن التورط في حروب كارثية خارج الحدود امتد ومازال إلى حكومات أخرى في إقليمنا التعيس، من إيران ببلاد مختلفة والإمارات في اليمن، وإسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وارتكبت حكومات ديكتاتورية مثل حكومة بشار الأسد جرائم إبادة ومذابح مفزعة ضد الشعوب التي تتسلط عليها، ودخلت حقوق الإنسان والحريات أنفاق مظلمة في ظل رغبة الحكام في ضبط المواطن والسيطرة على المجتمع وقمع كل معارضة محتملة.
وأيضا في إسرائيل التي مرر «برلمانها الديمقراطي» مؤخرا قوانين للفصل العنصري ضد العرب.
ولا تقف الحكومة السعودية بمفردها في خانة توظيف الأموال للسيطرة على وسائل الإعلام التقليدية وشبكات التواصل الاجتماعي تارة لممارسة الإنكار والتضليل وتارة أخرى للتجميل.
بل تنضم إليها غالبية حكومات الشرق الأوسط التي لا تعترف بانتهاكات الحقوق والحريات إلا حين يستحيل الإنكار وتفقد أسلحة التضليل والتجميل فاعليتها.
ويتواصل إنفاق الأموال من الخزانات العامة بين الخليج والمحيط، وهي في الأصل ملك وحق للشعوب وليس للحكومات لكي تتصرف فيها دون رقابة أو مساءلة أو محاسبة.
يتواصل الإنفاق على حملات دعاية هنا وعقود سلاح هناك إما لدفع الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على تجاهل جرائم حكومات إقليمنا التعيس أو لشراء رضاء الحكومات الغربية.
لا أتباكى، إذا، على ديمقراطية تنهار في شبه الجزيرة العربية منذ 2015 ولا أزعم أن تورط الحكومة السعودية في الممارسات العنيفة والقمعية يتناقض جذريا مع أحوال بلدان العرب وبلدان إقليمنا التعيس الأخرى.
كلنا في هم الحروب والاستبداد وانتهاكات حقوق الإنسان والحريات شرق.
فقط، أؤكد على أن حقائق الأمور في السعودية وغيرها من بلداننا توجب ومنذ سنوات أن يحظر البرلمان الألماني تصدير العتاد العسكري إلى الشرق الأوسط وفقا لمقتضيات القوانين المعمول بها.
لم يفعل البرلمان المنتخب ديمقراطيا في ألمانيا ذلك، ولم تفعله البرلمانات في الديمقراطيات الغربية المصدرة لأسلحة القتل والفتك في واشنطن ولندن وباريس.
لم يفعلوه لأن الدماء والدمار والانتهاكات إما لا قيمة لها على الإطلاق حين تحدث في بلداننا أو في «أحسن الأحوال» تقل قيمتها إذا ما قورنت بقيمة الأموال التي تصل الخزانات الغربية من جراء عقود السلاح وحملات الدعاية وصفقات الاسترضاء والاستعطاف.
لذلك، لم أتعجب من توالي تصريحات المسؤولين الألمان الرافضين لتعليق تصدير السلاح إلى السعودية ما أن أعلنت المستشارة ميركل كونها «تستشعر أن مواصلة إمداد الرياض بالسلاح تبدو غير مناسبة» اليوم.
أولئك المسؤولون أكثر اتساقا مع مرتكزات السياسات الألمانية والغربية، المال والمصلحة قبل كل شيء آخر، وفي التحليل الأخير يستطيع من تجاهل قتل آلاف الأطفال والمدنيين في اليمن (رحمهم الله) أن يتجاهل قتل جمال خاشقجي (رحمه الله).
* د. عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية وباحث بجامعة ستانفورد الأميركية.
المصدر: «القدس العربي»