الجزائر رفضت أن تكون محطة ضمن أية جولة أفريقية لماكرون واشترطت أن تكون الزيارة من باريس إلى الجزائر، ومن الجزائر إلى باريس.
تتمدد روسيا وتركيا في الساحل وأفريقيا ولهما مصالح واستراتيجيات وليستا “جمعيات خيرية”، بمعنى أنهما لا تمثلان الخلاص لدول وشعوب المنطقة.
قلق فرنسي بالغ من تحالفات جزائرية جديدة تخرج فرنسا على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي حتى، ضمنها دحرجة اللغة الفرنسية تدريجياً من التعليم.
يجر ماكرون خلفه خيبات كبيرة وجارحة لكبرياء فرنسا بعد خروجها المهين من مالي وأفريقيا الوسطى ورفض متصاعد لوجودها بالنيجر وبوركينا فاسو وإفلات ملف تشاد منها.
* * *
بقلم: عثمان لحياني
يأتي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قريباً إلى الجزائر، وهو يجر خلفه خيبات أفريقية كبيرة وجارحة للكبرياء الفرنسي، بعد خروج مهين لبلاده من مالي، ومن أفريقيا الوسطى، ورفض شعبي وسياسي متصاعد لوجود فرنسا في النيجر وبوركينا فاسو، وانفلات الملف التشادي من بين يديها.
قبل شهرين كان قصر الإليزيه يجري الاتصالات مع الرئاسة الجزائرية، لضبط موعد لزيارة ماكرون، بحيث تكون الجزائر في نهاية جولته الأفريقية، التي قادته قبل أسبوعين إلى بنين والكاميرون وغينيا.
لكن الجزائر رفضت أن تكون محطة ضمن أية جولة أفريقية لماكرون، واشترطت أن تكون الزيارة من باريس إلى الجزائر، ومن الجزائر إلى باريس.
وهذه المرة لن يحظى ماكرون بزيارة إلى وسط العاصمة الجزائرية، ولن تتاح له فرصة تحية الجماهير في الشارع، إذ تغيرت الظروف والمعطيات، والمناخ العام لم يعد يسمح بمثل هذه الطقوس السياسية التي كان يقوم بها الرؤساء الفرنسيون حال زيارتهم إلى الجزائر.
تدرك باريس تماماً أن المتغير الجزائري عميق هذه المرة، وأن هناك حسماً بالغاً في الذهنية السياسية والشعبية، بتجاوز محددات العلاقة القائمة مع فرنسا وتغيير قواعدها. والأكيد أن باريس استشعرت ذلك بوضوح خلال الرد الجزائري الحاد في أزمة أكتوبر/ تشرين الأول الماضي (استدعت الجزائر سفيرها من باريس للتشاور، وتبعته بعض القرارات كغلق الأجواء في وجه الطائرات العسكرية الفرنسية، رداً على تصريحات مثيرة للجدل من قبل ماكرون بحق الجزائر).
كما أن المسافة تتسع كثيراً بين الجزائر وباريس، لاعتبارات متعددة، ضمن ثلاثة أنساق متداخلة، محلية وإقليمية ودولية، وهي متصلة بالضرورة ومتزامنة أيضاً مع مياه كثيرة تجري من تحت الأرجل الفرنسية في منطقة الساحل. ولعل الخروج المذل للجيش الفرنسي من مالي، وقبله من أفريقيا الوسطى ومغادرة بوركينا فاسو، جزء من ملامح هذا التحول في المنطقة.
بيد أن هناك قناعة لدى الساسة الفرنسيين بأن الجزائر تؤدي دوراً مشجعاً للقوى الشعبية والحكومات المحلية في الساحل لمزيد من التضييق على كل مظاهر الوجود الفرنسي في الساحل.
وإذا كان الوجود الفرنسي في دول الساحل مرتبطا، وفقاً للسردية الفرنسية، بمكافحة الإرهاب، فإن باريس لم تنجز شيئاً في هذا المجال في المنطقة. بل لم يكن خافياً على أحد أن الإرهاب في مالي، كما في النيجر، أوجدته توترات محلية، وغذته ظروف معيشية، والجغرافيا الرخوة، وعززت تمركزه هشاشة الدولة.
لكن جزءا منه مصطنع ومدار من قبل الأجهزة والدول التي لديها مصالح في استمرار “الإرهاب المبرمج” في المنطقة، لتوظيفه في ما يبرر وجودها والحاجة الملحة لتدخلها، بدليل أن أكبر موجة للهجمات، تزامنت مع بدء تنفيذ خروج القوات الفرنسية من مالي.
الخيبات الأفريقية القاسية التي يجرّها ماكرون خلفه إلى الجزائر، يعززها قلق فرنسي بالغ من أمرين:
الأول، يخص تحالفات جزائرية جديدة تلقي بفرنسا خارجاً، على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي حتى، ضمنها دحرجة اللغة الفرنسية تدريجياً من التعليم، (نواب في البرلمان الفرنسي أبلغوا نظراء لهم في البرلمان الجزائري خلال اجتماع برلمانات المتوسط أن هذا القرار لن يمر من دون مقاومة من باريس).
والثاني، تمدد التمركز الروسي والتركي في الساحل وأفريقيا. وموسكو وأنقرة لهما مصالح واستراتيجيات وليستا “جمعيات خيرية”، بمعنى أنهما لا تمثلان الخلاص لدول وشعوب المنطقة.
لكن دول وشعوب المنطقة تعتبر أنهما من القوى المساعدة لطرد الوجود الفرنسي في المرحلة الأولى، وعلى استعادة زمام المبادرة المحلية في المرحلة الثانية. فكلما ابتعدت أفريقيا عن فرنسا، كلما برأ الأفارقة من أمراض ما بعد الاستعمار المظلم، ووجدوا سبيلاً لحل مشكلاتهم.
* عثمان لحياني كاتب صحفي جزائري
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك:
ماكرون يبدأ “جولة المخاطر” في أفريقيا لمواجهة التحدي الروسي الصيني