غياب المشروع الوطني الفلسطيني أدّى إلى صعود المشروعات الفصائلية والفرعية والحسابات المختلفة لدى القوى السياسية الفلسطينية.
هنالك توجه واضح في الكيان الصهيوني حول نجاعة استراتيجية الردع وضرورة إعادة النظر في العلاقة مع حماس باتجاه الانتقال من المستوى العسكري إلى السياسي.
أفرز الانقسام واقعاً خطيراً وانقسام الساحات، مقابل مطالبات بوحدتها، فلا نتحدّث فقط عن ساحة الضفة الغربية، وساحة فلسطين 48، وساحة غزّة، بل ساحات أخرى فصائلية!
ما مدى ضغط الواقع الداخلي بغزّة على حماس وانعكاس الانقسام الفلسطيني على قراءة حماس للواقع الجيوستراتيجي في العلاقة بالضفة الغربية والسلطة ومصر والمتغيرات الإقليمية؟
* * *
بقلم: د. محمد أبو مازن
طغى السؤال عن موقف حركة حماس خلال العدوان الإسرائيلي أخيراً على غزّة على أغلب النقاشات والتحليلات السياسية، وهو الأمر الذي يطرح سؤالاً مهماً وأساسياً فيما إذا كنّا أمام تحوّل جوهري في السلوك السياسي للحركة وحساباتها الاستراتيجية، بعد أن قرّرت بصورة واضحة عدم الانخراط في المواجهة المسلّحة مع إسرائيل.
ثمّة تفسيرات عديدة لموقف “حماس” التي تسيطر على قطاع غزة، يتصدّرها الحديث عن إدراك الحركة – الحكومة الغزّية طبيعة الظروف القاسية التي يعاني منها المواطنون في القطاع، والتحوّط من الدخول في حربٍ دون وجود قراءة واضحة للأهداف والنتائج المترتّبة عليها، خاصة أنّ هنالك حصاراً مضروباً على القطاع وظروفاً اقتصادية قهرية وظروفاً إنسانية قاسية تجعل كلفة الحرب كبيرة جداً، إذا كانت بلا عنوان سياسي واضح.
ذهبت إلى هذا التحليل أغلب القراءات في الصحافة العبرية، منها إشارة الصحافي أليكس فيشمان، في صحيفة يديعوت أحرونوت، إلى آلاف الغزّيين الذين يتوجهون يومياً للعمل في الكيان الصهيوني، وإلى قائمة تصل إلى مائة ألف مسجّل للعمل هناك.
في محاضرة له في معهد السياسة والمجتمع، قبل أسبوعين، أشار أستاذ العلاقات الدولية، في جامعتي قطر وبيرزيت، أحمد جميل عزم، إلى ظواهر جديدة تتشكّل على أرض الواقع، منها ما وصفه بـ”خصخصة الاحتلال”، إذ أصبحت دينامية الفلسطينيين الذين يعملون في الكيان المحتل متغيراً رئيساً في المعادلة الاستراتيجية.
يذهب اتجاه آخر في التحليل إلى جدلية العلاقة بين الفصيلين الفلسطينيين، حركتي حماس والجهاد الإسلامي. وهنا يشير الباحثان والمحللان الفلسطينيان، معين الطاهر وهاني المصري، في ندوة أخرى في معهد السياسة والمجتمع، يوم الخميس الماضي بعنوان “العدوان على غزة وتحولات المشهد الفلسطيني”، إلى أنّ غياب المشروع الوطني الفلسطيني أدّى إلى صعود المشروعات الفصائلية والفرعية والحسابات المختلفة لدى القوى السياسية الفلسطينية، ما أفرز واقعاً خطيراً يتمثّل بانقسام الساحات (مقابل المطالبات الفلسطينية الوطنية بوحدتها)، فصرنا لا نتحدّث فقط عن ساحة الضفة الغربية، وساحة فلسطيني 48، وساحة غزّة، بل ساحات أخرى على صعيد الفصائل والقوى المختلفة!
يتجه تحليل آخر نحو المشهد الإقليمي والتنازع بين التحالفات، ففي وقتٍ تقف إيران خلف حركة الجهاد وتدعمها عسكرياً وسياسياً، فإنّ هنالك سجالاً داخلياً في حركة حماس بشأن العلاقة مع إيران، بين جناحٍ يرى ضرورة الالتزام بحلف الممانعة والعلاقة مع إيران، وترميم العلاقات مع النظام السوري (خاصة بعد ما حدث منذ الربيع العربي 2011)، ومن يرى أن على الحركة أن تكون حذرة في حساباتها الإقليمية، خاصة أنّها لا تريد أن تكون جزءاً من حساباتٍ دوليةٍ وإقليمية لا تأخذ بالاعتبار مصالح سكان غزّة وحساباتهم.
على صعيد الواقع الفعلي، ما حدث، وإنْ لم ينعكس على السطح السياسي في علاقة الحركتين (حماس والجهاد الإسلامي)، ترك، بالتأكيد، نتائج ودلالات لدى قادة الحركتين وحساباتهما باتجاه المرحلة المقبلة، خاصة أن “الجهاد الإسلامي” خرجت من المعركة بوساطات مصرية، وبعد القضاء على قيادات مهمة في الصف الأول من الحركة، سواء من خلال العدوان الإسرائيلي أو حتى أبناء الحركة في الضفة الغربية.
ما يتجاوز هذا وذاك قراءة التغير في حسابات حركة حماس وقراءاتها وتوجهاتها للمرحلة المقبلة، خاصة أنّ هنالك توجهاً واضحاً في الكيان الصهيوني، بدأ يتحدّث عن نجاعة استراتيجية الردع، وضرورة إعادة النظر في العلاقة مع الحركة باتجاه الانتقال من المستوى العسكري إلى المستوى السياسي، وهو ما أشار إليه بوضوح مقال الكاتب الإسرائيلي، تل ليف رام، في صحيفة معاريف، الذي دعا إلى حلول سياسية واقتصادية.
إلى أي مدى يضغط الواقع الداخلي في غزّة على حماس؟ وإلى أي مدى ينعكس تجذّر الانقسام الفلسطيني على قراءة الحركة للواقع الجيوستراتيجي في العلاقة مع الضفة الغربية والسلطة ومصر والمتغيرات الإقليمية؟ وما هي انعكاسات ذلك كلّه على المشروع الوطني الفلسطيني؟
تلك أسئلةٌ تتطلب إجابات موضوعية واستراتيجية لإعادة التفكير بصورة معمّقة ومراجعة الحالة الفلسطينية والمشروع الكفاحي وإحداثياته، وتأثير المتغيرات الكبرى في الأعوام الأخيرة عليه.
* د. محمد أبورمان باحث في الفكر الإسلامي والإصلاح السياسي، وزير أردني سابق
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: