بعد وصول المستوطنين الأوروبيون للاستيطان بأمريكا الشمالية، سعوا للتخلص من أهل القارة للاستيلاء على أراضيهم فارتكبوا مذابح جماعية وفظائع بالجملة.
بدلا من قتل السكان الأصليين، تم اغتيالهم ثقافيا وروحيا بمحو هويتهم بالكامل رافعين شعار «نقل الحضارة للهمج» فنشأت فكرة المدارس الداخلية بالبلدين.
عقدت حكومات المستوطنين بالولايات المتحدة وكندا معاهدات مع أمم وممالك السكان الأصليين سارية حتى اليوم، ونادرا ما التزمت بها حكومتا البلدين.
لم يتضمن خطاب البابا الاعتذار فقط عن دور الكنيسة تاريخيا، بل قال إن الجراح الغائرة في نفوس السكان الأصليين بموجب تلك السياسة «الكارثية» لن تندمل بين ليلة وضحاها.
* * *
زيارة بابا الفاتيكان لكندا مؤخرًا كانت ذات مغزى وأهمية رمزية كبيرة للسكان الأصليين لأمريكا الشمالية، فالهدف من الزيارة كان الاعتذار رسميا عما اقترفته الكنيسة الكاثوليكية في حقهم. وباعتذار البابا تكون الكاثوليكية آخر المذاهب المسيحية ذات الصلة بالموضوع التي قدمت اعتذارًا رسميًا عما ارتُكب بحق السكان الأصليين.
فبعدما وصلوا من أوروبا للاستيطان بأمريكا الشمالية، سعى المستوطنون للتخلص من أهل تلك القارة للاستيلاء على أراضيهم فارتكبوا مذابح جماعية وفظائع بالجملة.. ثم عقدت حكومات المستوطنين بكل من الولايات المتحدة وكندا معاهدات مع أمم وممالك السكان الأصليين سارية حتى اليوم، ونادرا ما التزمت بها حكومتا البلدين.
أما ما اعتذر عنه البابا تحديدًا، فكان ما جرى لاحقا حين تفتقت أذهان المستوطنين عن حيلة جديدة للتخلص من السكان الأصليين.. فبدلا من قتلهم، كانت الفكرة أن يتم اغتيالهم ثقافيا وروحيا من خلال محو هويتهم بالكامل رافعين شعار «نقل الحضارة للهمج». ومن هنا نشأت فكرة المدارس الداخلية بالبلدين.
فكان يتم خطف الأطفال من ذويهم وإيداعهم مدارس داخلية وحرمان أهلهم للأبد من معرفة حتى مكانهم. وعدد الأطفال الذين تم خطفهم من عام 1883 إلى 1997 وصل إلى 150 ألف طفل في كندا وحدها. وفى تلك المدارس كان يتم تعليم الأطفال لغة المستوطن، وعقابهم وتعذيبهم لو تحدثوا بلغاتهم الأصلية. كما كان يتم تلقينهم المسيحية والحط من شأن كل ما له علاقة بثقافاتهم الأصلية بكل مكوناتها. وكان أولئك الأطفال يتعلمون حرفا يدوية فقط لخلق جيش من العمالة.
وتلك ليست القصة كلها، وإنما كان يتم تعذيب الأطفال جسديا ونفسيا، بما في ذلك حالات اغتصاب جنسى واسعة، فضلا عن سوء التغذية وانعدام الرعاية الصحية، حتى إن كندا اعترفت رسميًا نهاية العام الماضى بوجود مقابر جماعية لما يقرب من 1300 طفل اكتشفت في أربعة فقط من تلك المدارس. أما من ظلوا على قيد الحياة، فقد عاشوا بجراح نفسية وجسدية لها تداعياتها حتى اليوم على مقدرات السكان الأصليين الاجتماعية والاقتصادية والنفسية.
ولقد لعبت الكنائس بمذاهبها المختلفة دورا رئيسيا في تلك الحملة المحمومة لمحو الهوية. وفى كندا، كانت حوالى 70% من تلك المدارس تابعة للكنيسة الكاثوليكية. لكن مسؤولية الكنيسة الكاثوليكية تذهب لما هو أبعد من ذلك، إذ إن البابا ألكساندر السادس كان هو الذي كتب ما يعرف بـ«مذهب الاكتشافات»، الذي منح المستوطنين الحق في الأرض التي «يكتشفونها» في الأمريكتين، الأمر الذي أضفى الشرعية الدينية على نهب ثروات السكان الأصليين وسلبهم حقوقهم.
وما ارتُكب في حق السكان الأصليين في كندا كان هو نفسه، بالمناسبة، ما جرى في الولايات المتحدة.. لكن كندا تتفوق على جارتها الجنوبية من حيث دور حكومتها..
فقد شكلت الحكومة الكندية لجنة لتقصى الحقائق، هي التي كشفت عن العدد الكلى للأطفال والمقابر الجماعية لهم، ثم قدمت الحكومة اعتذارا رسميا عن جرائم الماضى. أما الولايات المتحدة، فلا شيء من ذلك حدث حتى العام الماضي، حين تشكلت أول لجنة للتقصي بعد أن اختار بايدن لأول مرة في التاريخ الأمريكي وزيرة من السكان الأصليين لتتولى هذا الملف.
ومن هنا تأتى أهمية زيارة بابا الفاتيكان.. فلجنة التقصي الكندية التي أصدرت تقريرها في 2015 طالبت باعتذار رسمي من الكنيسة الكاثوليكية، فاستجاب البابا فرنسيس الذي لم يتضمن خطابه الاعتذار فقط عن دور الكنيسة تاريخيا، وإنما قال بحق إن الجراح الغائرة في نفوس السكان الأصليين بموجب تلك السياسة «الكارثية» لن تندمل بين ليلة وضحاها.
* د. منار الشوربجي أستاذ العلوم السياسية المساعد، باحثة في الشأن الأمريكي
المصدر: المصري اليوم – القاهرة
موضوعات تهمك:
اعتذار البابا في كندا لا يعفي الفاتيكان من التقصير