السلطة المطلقة مفسدة مطلقة والاعتماد على الأجهزة الأمنية في غياب سلطة تشريع تمثل المجتمع وجهاز قضائي مستقل يؤدي إلى فراغ سياسي هائل لا يملؤه سوى الانتهازيون والمنتفعون والفاسدون.
بقلم: حسن نافعة
أحيت الشعوب العربية هذا الأسبوع بالذكرى السادسة والستين لثورة 23 يوليو. ويتضح من حجم ما كتب أو نوقش بهذه المناسبة أن ثورة يوليو حدث غير قابل للتجاهل أو النسيان وذلك لسبب بسيط وهو أنه أثر ويؤثر وسيظل يؤثر على كافة دول وشعوب المنطقة، ولفترة طويلة قادمة.
ليس معنى ذلك أن النخب السياسية والفكرية في مصر والعالم العربي لديها رؤية موحدة حول القيمة التاريخية لهذا الحدث، أو تأثيراته الفعلية على أرض الواقع، وما إذا كانت سلبية أم إيجابية في المحصلة النهائية.
فكل الدلائل تشير إلى أن هذا الحدث لم يخضع بعد لأي عملية تقييم موضوعي شامل، حتى من جانب الأكاديميين وأساتذة التاريخ، ومن ثم فقد كان ومايزال وسيظل لفترة طويلة قادمة موضع جدل حاد يصل إلى حد الاستقطاب الكامل.
فمايزال يعيش بين ظهرانينا أجيال تحب عبدالناصر إلى درجة القداسة وأجيال أخرى تمقته وتنزل به إلى درك الشياطين، بما في ذلك أجيال شابة لم تر عبد الناصر قط أو تشهد ايا من معاركه الكبرى.
لا أريد بمناسبة هذه الذكرى فتح باب جديد للجدل حول ثورة يوليو وزعيمها جمال عبد الناصر، لأنني لا أميل بطبعي إلى هذا النوع من الجدل الذي يعبر عن حالة استقطاب عقيم، أظنه بالغ الضرر في الوقت نفسه.
فأنا واحد ممن يقدرون جمال عبدالناصر حق قدره ويدركون قيمته كواحد من أبرز قادة العالم في القرن العشرين وأكثرهم تأثيرا، لكنني أدرك في الوقت نفسه حجم ما ارتكبه الرجل من أخطاء، وصل بعضها إلى درجة الخطيئة. ومع ذلك في تقديري أن عبدالناصر تمتع بميزتين عظيمتين:
الأولى: شدة إخلاصه لبلده، والتي أظن أنه أحبها كما لم يحبها أحد من قبل وربما بعده، وهذا الحب الطاغي هو ما دفعه أحيانا ليصبح شديد الغيرة على عزتها وكرامتها، إلى درجة الحساسية المفرطة التي تصل حد المبالغة أحيانا. فلا شك أن عبدالناصر حرص على عزة مصر واعتبرها جزءا لا يتجزأ من عزته الشخصية كما حرص على كرامة مصر واعتبرها جزءا من كرامته الشخصية، ولذا لم يكن على استعداد لأن يفرط فيهما أبدا.
الثانية: أنه لم يكن فاسدا أو قابلا للفساد والإفساد، وهذا معناه في تقديري أنه لم يسع إلى السلطة طمعا في ثروة أو جاه أو سلطان، أو لإثبات جدارة وكفاءة لا يستحقهما، لكنه سعى إليها باعتبارها أداة لوضع رؤيته الثورية موضع التطبيق.
لا ينبغي أن ننسى هنا أن عبدالناصر كان سياسيا من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، حتى قبل أن يلتحق بالكلية الحربية، ليس فقط لأنه شارك في مظاهرات وهو ما يزال طالبا في المدرسة الثانوية، ولكن أيضا وعلى وجه الخصوص لأنه حرص على الالتحاق بعدة أحزاب أو جماعات سياسية، من أقصى اليمين إلى اقصى اليسار، كي يتعرف على برامجها ورؤاها، بدءا بجماعة الإخوان المسلمين وانتهاء بتنظيم «حدتو» (أحد الفصائل الماركسية أو الشيوعية).
هذا البعد السياسي والثوري في شخصية عبد الناصر هو ما يفسر كل هذا الإصرار من جانب عبد الناصر على خوض هذا الكم من المعارك على صعيدي السياسات الداخلية والخارجية (الإصلاح الزراعي، تأميم القناة، بناء السد العالي، قوانين يوليو الاشتراكية، الوحدة العربية، الصراع مع إسرائيل ومشروعها الصهيوني..الخ).
وحتى هذه اللحظة ليس لدى شخصيا أي خلاف مع أي من التوجهات العامة لسياسات عبدالناصر الداخلية أو الخارجية، خلافي الأساسي يتعلق بالتفاصيل وبطريقة التطبيق. لذا كنت ومازلت أعتقد أن خطأ عبد الناصر القاتل كان هاجس الأمن المبالغ فيه واعتماده على أهل الثقة في غياب أي مؤسسات حقيقية مستقلة.
تجربة عبدالناصر تؤكد أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة وأن الاعتماد على الأجهزة الأمنية وحدها لإدارة الدولة والمجتمع، في غياب سلطة تشريع حقيقية تمثل كافة شرائح المجتمع وجهاز قضائي مستقل تماما، يؤدي إلى فراغ سياسي هائل لا يملؤه سوى الانتهازيين والمنتفعين والفاسدين.
لذا قلت من قبل وأعود فأكرر اليوم أن نظام عبد الناصر الشمولي التسلطي قتل مشروع عبدالناصر الوطني القومي الثوري ومهد للثورة المضادة. فهل استوعبنا الدرس؟
- د. حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة.