كيف اعتدى بلينكن على تونس في تصريحاته يوم الخميس الماضي؟
ثمة أزمات أخلاقية عندما تُفهم السيادة الوطنية بمثابة رخصة للقتل والقمع والاستبداد.
أزمة شرعية لأن الحاكم الذي يحترم العقد الاجتماعي مع مواطنيه يدرك أن التدخل الأجنبي لن يجد صدى
أزمة ثقة لأن المجتمعات المتماسكة لا تخشى انتقاداً آتياً من وراء الحدود، ولا بياناً ولا مقالاً ولا منظمة غير حكومية.
أي مبالغات عن السيادة الوطنية والتدخل الأجنبي في بلدٍ ما تؤكّد أنه مأزوم في نواحٍ عديدة: أزمة ثقة وأزمة شرعية وأزمات أخلاقية.
أظهر غَضب بيان الاتحاد العام التونسي للشغل من “إلقاء الدروس في الديمقراطية علينا” أنه ليس قيس سعيّد وحده من يحتاج دروساً في الديمقراطية!
إن كان الضغط الخارجي والتدخل الأجنبي يحميان البشر من القتل والإبادة والقمع والسجن والدكتاتورية فربما يجدر الترحيب بهما والمجتمعات الحرة لا تترك مجالاً للتدخل الأجنبي.
* * *
بقلم: أرنست خوري
كلما سمعتَ كلاماً مبالغاً فيه عن السيادة الوطنية والتدخل الأجنبي في بلدٍ ما، تأكّد أن البلد المعنيّ مأزوم في نواحٍ عديدة:
– أزمة ثقة، لأن المجتمعات المتماسكة لا تخشى انتقاداً آتياً من وراء الحدود، ولا بياناً ولا مقالاً ولا منظمة غير حكومية.
– أزمة شرعية، لأن الحاكم الذي يحترم العقد الاجتماعي الذي يربطه بمواطنيه يدرك أن التدخل الأجنبي لن يجد صدى. وطبعاً أزمات أخلاقية عندما تُفهم السيادة على أنها رخصة للقتل والقمع.
لا يعني هذا الكلام أن الدول لا تتدخل في شؤون أخرى، ولا ينفي أن التدخل الأجنبي يمكن أن يكون ضارّاً، ولا يلغي أنّ ترجمات عديدة لـ”واجب التدخل الإنساني” أدّت إلى نتائج كارثية.
لكن هذا الكلام يعني تحديداً أنّه إن كان الضغط الخارجي والتدخل الأجنبي يحميان مجموعات بشرية من القتل والإبادة والقمع والسجن والديكتاتورية، فإنما يجدر الترحيب بهما أينما حلّا، حتى وإن لم يعجب ذلك أنصار نظرية “القضايا أهم من البشر”.
ويعني هذا الكلام من ضمن ما يعنيه، أن المجتمعات الحرة والديمقراطية، لا تترك مجالاً عريضاً للتدخل الأجنبي، وحتى لو حصل، فسيكون له أثر محو وليد المعلم قارّة أوروبا عن الخريطة.
وهل سُمع يوماً ردّ أميركي على التنديد الدائم بالنظام السياسي للولايات المتحدة، من قبل حكام بلدانٍ علاقتهم بالديمقراطية والليبرالية كمثل صلة الثلج بالصحراء؟
مناسبة الحديث الغضب الذي اعترى بيان الاتحاد العام التونسي للشغل يوم السبت الماضي من بضع كلمات صدرت عن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن والسفير الأميركي المنتظر اعتماده لدى تونس، جون هود، أمام الكونغرس.
تصريحات أميركية أثارت توتراً اتحادياً واستنكاراً ومطالبة بـ”موقف حازم وقوي، وإذا لزم الأمر تعليق اعتماد السفير الأميركي الجديد”، و”وضع حدّ لهذه الانتهاكات وتجسيد إرادة الشعب الحقيقية في رفض التعدّي على بلادنا بأيّ شكل من الأشكال” حسب بيان اتحاد الشغل المشغول خصوصاً في السنوات الماضية بالدفاع عن بشار الأسد وآلة الإبادة البعثية.
لكن كيف اعتدى بلينكن على تونس في تصريحاته يوم الخميس الماضي؟
قال إنّ الاستفتاء على الدستور التونسي الجديد “اتسم بتدني نسب مشاركة الناخبين”، متحدثاً عن “عام من التراجع المفزع” لمستويات الحرية والديمقراطية، وأشار إلى أنّ “واشنطن تشاطر العديد من التونسيين انشغالهم بأنّ المسار المنتهج في صياغة الدستور الجديد قد قيّد مجال النقاش الحقيقي، وأنّ الدستور الجديد يمكنه أن يضعف الديمقراطية في تونس”.
ليت اتحاد الشغل أوضح لجمهوره وللعموم ما الذي رأى فيه نافراً في كلام بلينكن، اللّهم إلا إذا كان غضبه يندرج في خانة مهادنة الرئيس ــ الديكتاتور منذ 25 يوليو 2021، ورفضه المشاركة في كل جبهات المعارضة، وعدم تسمية الانقلاب انقلاباً، وتوسّل حواراً مع الرئيس، رغم كل الإهانات التي وجهها الأخير للتنظيم النقابي.
حتى في الإضراب الذي نظّمه الاتحاد في يونيو الماضي، فإنه لم يوجّهه ضد قيس سعيّد، بل ضد موظفيه من وزراء ورئيسة وزراء. يبقى في البال أن اتحاد الشغل كان راضياً عن انقلاب 25 يوليو، وكل ملاحظاته اختُصرت بمطالبة قيس سعيّد بوضع جدول زمني وسقف دستوري لانقلابه.
وفي البال طبعاً أن أول مطلب “خارجي” رفعه الاتحاد للرئيس بعد الانقلاب بأقل من عشرة أيام، كان ضرورة إعادة العلاقات فوراً مع نظام بشار الأسد، الوجهة الدورية لزيارات وفود الاتحاد.
البيان السيادي لاتحاد الشغل ينتقل من دون مقدمات من مهاجمة أميركا ووزيرها وسفيرها، إلى تقديم مطالعة خطيرة في كشف نظرة النقابة العمالية إلى عشرية الديمقراطية التونسية ما قبل انقلاب قيس سعيّد.
وذلك عندما يندد بـ”تعمُّد بعض القوى السياسية الداخلية الاستنجاد بالدول الأجنبية لاستعادة الحكم والعودة إلى حقبة عمّ فيها الحيف واستشرى الفساد والإرهاب وتعمّقت فيها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وضاعت السيادة الوطنية عبر الاصطفاف بالأحلاف والخضوع لتعليمات الدول”.
غَضِب بيان اتحاد الشغل من “إلقاء الدروس في الديمقراطية علينا”. ربما لم يكن قيس سعيّد وحده من يحتاج دروساً في الديمقراطية.
* أرنست خوري كاتب صحفي لبناني
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: