الدفع نحو إقامة منظومة أمنية إقليمية بقيادة أميركية هو جزء من الحمض النووي لواشنطن.
إصرار الولايات المتحدة على إنشاء حلف عسكري خليجي إسرائيلي، هو بذاته عامل زعزعة للاستقرار في الإقليم.
ما دوافع الولايات المتحدة لطرح مشاريع تفاقم التوتّر الإقليمي رغم حرصها المزعوم على “الاستقرار” في منطقة هامّة استراتيجياً لـ”أمن الطاقة العالمي”.
رفض الدول الخليجية والعربية تشكيل “ناتو شرق أوسطي”، يضمّ إسرائيل، بقيادة أميركية، لمواجهة إيران، فشل لمحاولة إدارة بايدن إقامة “نظام إقليمي جديد”.
“أصبح غير ممكن إعادة تنظيم الشرق الأوسط من قِبل واشنطن. فقادة هذه المنطقة يفضّلون الرهان بالكامل على عالم متعدّد الأقطاب، وهو ما اتّضح عبر رفضهم الوقوف مع أمريكا وأوروبا ضدّ روسيا”.
* * *
بقلم: وليد شرارة
ليس من المبالغة اعتبار رفض الدول الخليجية والعربية تشكيل «ناتو شرق أوسطياً»، يضمّها وإسرائيل، بقيادة أميركية، لمواجهة إيران، فشلاً لمحاولة إدارة جو بايدن إقامة «نظام إقليمي جديد»، بعد سلسلة إخفاقات أميركية لإنشاء مثل هذا النظام منذ نهاية الثنائية القطبية والحرب ضد العراق في1991.
يشير مارك لينش، أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط، في مقال نُشر في 26 من هذا الشهر على موقع “فورين أفيرز” بعنوان “نظام الشرق الأوسط الجديد القديم”، إلى هذه المحاولات المتتالية، والفاشلة، والمتّصلة برأيه بما يسمّيه “أساطير 1991”.
الحضّ على إقامة منظومة إقليمية بقيادة أميركية هو جزء من الحمض النووي لواشنطن. وبشكل خاص، هناك جيل من صنّاع السياسة الخارجية الأميركية الذين يرون أن 1991، والنظام الإقليمي الذي تبلوَر في تلك الفترة، هو النموذج الذي ينبغي استنساخه.
من السهل فهم أسباب ذلك. فالحقبة التي تلت سقوط الاتحاد السوفياتي هي مرحلة أوج الريادة العالمية للولايات المتحدة.. وقد بَذلت إدارتا بوش الأب وكلينتون جهوداً طموحة لربط المنطقة بالقطب الآحادي الأميركي وتحويلها إلى “منظومة إقليمية متناسبة مع مصالحه”.
يستعرض لينش المحاولات المذكورة، بدءاً بتلك التي باشرها بيل كلينتون عبر رعاية “عملية السلام” التي انطلقت في مدريد، والهادفة إلى الوصول إلى “شرق أوسط جديد” مندمج اقتصادياً واستراتيجياً، وفقاً لأفكار شمعون بيريز، مروراً بمشروع «إعادة صياغة الشرق الأوسط»، تحت غطاء “الحرب على الإرهاب”، استناداً إلى نظريات المحافظين الجدد..
ومروراً بسياسة «إعادة التوازن» التي زعم باراك أوباما اعتمادها بين الدول الخليجية وإيران، وصولاً إلى استراتيجية «الضغوط القصوى» على إيران التي طبّقها دونالد ترامب، و«اتفاقات أبراهام» التي رعاها.
لم تنجح جميع هذه المساعي، على رغم أن السياقات الدولية والإقليمية التي تمّت في ظلّها كانت أكثر ملاءمة للولايات المتحدة من السياقات الراهنة، ما يدفع مارك لينش إلى الاستنتاج بأن جهود إدارة بايدن محكومة بالفشل، لأنه «أصبح من غير الممكن إعادة تنظيم الشرق الأوسط الراهن من قِبل واشنطن. فقادة هذه المنطقة يفضّلون الرهان بالكامل على ما يرونه عالماً متعدّد الأقطاب، وهو ما اتّضح عبر رفضهم الوقوف مع الولايات المتحدة وأوروبا ضدّ روسيا».
ما يبرّر هذا الاستشهاد الطويل بمقال لينش المنشور في «فورين أفيرز»، الصادرة عن «مجلس العلاقات الخارجية»، هو أن الأخير يُعدّ أحد المنتديات الهامّة للنقاش الاستراتيجي في الولايات المتحدة، وأن المقال المذكور قد عكس شكوك قطاع من النُخب المعنيّة بالشؤون الدولية في سياسة الإدارة الحالية في الشرق الأوسط.
الفكرة الأهمّ التي ينطلق منها هؤلاء، هي أنه لم يَعد باستطاعة واشنطن التحكُّم بمنطقتنا؛ أولاً لأنها باتت أضعف من السابق. يعني الكلام المتقدّم، بالنسبة للدول التي راهنت على «الحماية الأميركية»، أن المقاربة «الواقعية» التي دفعتها إلى ذلك، ينبغي أن تحفّزها على البحث عن سبل أخرى لضمان أمنها، من خلال العمل للتوصّل إلى تفاهمات مع دول الإقليم الأخرى، وفي مقدّمتها إيران، ومع القوى الدولية المعنيّة باستقرار المنطقة، كالصين وروسيا.
إصرار الولايات المتحدة على إنشاء حلف عسكري خليجي إسرائيلي، هو بذاته عامل زعزعة للاستقرار في الإقليم. فنظراً للصراع المحتدم بين محور المقاومة، وفي القلْب منه إيران، والكيان الصهيوني، سيترتّب على دخول دول الخليج في حلف “دفاعي” مع الأخير، رفعاً لمستوى التوتّر بينها وبين الأوّل، وزيادة لاحتمالات الصدام المباشر معها في حال وقوع صدام مع الكيان. وقد حذّر أكثر من مسؤول إيراني من مغبّة إنشاء هكذا حلف باعتباره تهديداً خطيراً لأمن بلادهم القومي.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو عن الدوافع التي تحدو بالولايات المتحدة إلى طرح مشاريع تزيد من التوتّر الإقليمي، على رغم حرصها المزعوم على «الاستقرار» في منطقة هامّة استراتيجياً «لأمن الطاقة العالمي».
في الواقع، فإن التوتّر، أو افتعال التوتّر، هو مصلحة أميركية لتبرير بقاء الهيمنة الأميركية على الخليج، ومحاولة إدامة السيطرة على سوق الطاقة العالمية. استغلال التوتّرات الإقليمية والدولية كان مرتكزاً أساسياً من مرتكزات الاستراتيجية الأميركية حيال الخليج، والرامية إلى إحكام السيطرة على نفطه وغازه.
فبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، والغزو السوفياتي لأفغانستان، أعلن الرئيس الأسبق، جيمي كارتر، عن العقيدة التي حملت اسمه، «عقيدة كارتر»، والتي تنص على أن واشنطن لن تتردّد في استخدام القوة العسكرية للدفاع عن «مصالحها» في الخليج، وتمّ إنشاء قوات التدخّل السريع الأميركية لهذه الغاية.
استفادت الولايات المتحدة من مخاوف الأنظمة الخليجية من انتصار ثورة شعبية ضدّ النظام الشاهنشاهي، وروّجت لفرضية أن الغزو السوفياتي لأفغانستان غايته الفعلية هي الوصول إلى «المياه الدافئة» في الخليج، وهو ما دحضته جميع دراسات المؤرّخين والباحثين عن الخلفيات الحقيقية للغزو، وذلك لتثبيت سيطرتها على الخليج.
الأمر نفسه ينطبق على كيفية تعاملها مع التدخّل العراقي في الكويت في 1990، عندما أوحت عبر سفيرتها في بغداد، أبريل غلاسبي، لصدام حسين بأنها تعتبر الخلاف بين بلاده والكويت شأناً عربياً، قبل أن تسارع إلى إرسال قواتها لـ«تحرير» هذا البلد، وإحكام قبضتها على الخليج.
تغيّرت الظروف اليوم، نتيجة لانقلاب موازين القوى الدولية، ولم تَعد واشنطن قادرة على خوض عدّة مواجهات كبرى في الآن نفسه، أي مع روسيا والصين وإيران. لذلك، هي تلجأ إلى محاولة إحياء الأحلاف العسكرية، وليس مجرّد التحالفات، سعياً لتعزيز سيطرتها على «الحلفاء» المفترضين، وفي مقدّمتهم دول الخليج، التي تَوسّع هامش استقلاليتها في ظلّ الأوضاع الدولية المُشار إليها.
لم توافق دول الخليج على الدخول في حلف علني مع إسرائيل ضدّ إيران، نتيجة لإدراكها الخلفيات الأميركية. غير أن التقاط الفرصة السانحة التي يوفّرها السياق الدولي الراهن، والتوصّل إلى تفاهمات مع إيران على منظومة أمنية إقليمية مستقلة، تسمح بإيجاد حلول للنزاعات والخلافات في ما بينهما، سيعزّز الاستقرار في الإقليم، وهو ما تريده جميع دوله.
قد تتيح مثل هذه المنظومة أيضاً التنسيق في مجال الطاقة، في ظلّ الأزمة العالمية الراهنة، لتعزيز موقع الدول التي تنتجها، في مقابل القوى الغربية التي تحكّمت بمعدّلات إنتاجها وبأسعارها لعقود خلت على حساب أولئك المنتجين. الفرصة سانحة لتفاهمات «واقعية» ملائمة لمصالح الدول الخليجية وإيران، وتحظى بدعم شركاء لهذَين الطرفَين كالصين وروسيا.
* د. وليد شرارة باحث لبناني في العلاقات الدولية
المصدر: الأخبار – بيروت
موضوعات تهمك: