مؤشرات قوية تنذر بأن الاستقطاب لم يعد سياسيًا وإنما صار من أكثر أنواع الاستقطاب الاجتماعى خطورة.
بات الأمريكيون الليبراليون يهجرون ولايات الجنوب بينما يفضل المحافظون والمتدينون البيض الانتقال إليها!
الخطورة في تحول الاستقطاب لحالة مجتمعية تتفاقم حين يتطابق الانقسام مع خطوط تماس اجتماعية أخرى عرقية وإثنية ودينية كحالة المجتمع الأمريكي اليوم.
لم يعد الأمريكيون ينتقلون من ولاية لأخرى بحكم الوظيفة أو الدراسة أو تكاليف المعيشة فقط بل باتوا يختارون أيضًا الولاية التي توافقهم ميول سكانها الأيديولوجية.
عادت قضية الإجهاض لقمة الأولويات مؤخرا بصدور قرار المحكمة العليا فألغى دستورية الإجهاض كحق للمرأة، وأعادة الأمر للولايات ليتخذ كلٌ منها قرارها بشأنه.
* * *
في عالم اليوم، صار الكثير من المجتمعات يعانى استقطابًا سياسيًا بدرجات مختلفة. والاستقطاب السياسى يمكن علاجه لو ظل حالة تتعلق بالنخب السياسية والحزبية. الخطورة تكمن في تحول الاستقطاب إلى حالة مجتمعية. وتزداد الخطورة حين يتطابق الانقسام مع خطوط تماس اجتماعية أخرى مثل الخطوط العرقية والإثنية أو الدينية.
وتلك بالضبط هي حالة المجتمع الأمريكي اليوم، إذ توجد مؤشرات قوية تنذر بأن الاستقطاب لم يعد سياسيًا وإنما صار من أكثر أنواع الاستقطاب الاجتماعي خطورة.
ولا يمكن الوقوف على حدّة مثل ذلك الاستقطاب إلا من خلال القضايا الخلافية الكبرى التي تمثل أولوية لدى أغلب المواطنين. ولعل قضية الإجهاض من أهم تلك القضايا.
فهي قضية ظلت حاضرة في المجال العام على مدار نصف عقد على الأقل، لا يكف السياسيون عن الحديث عنها ولا تتوقف النخب عن الإلحاح عليها كقضية رئيسية.
وقد عادت تلك القضية لقمة الأولويات بصدور قرار المحكمة العليا الشهر الماضي الذي ألغى عمليًا دستورية الإجهاض كحق للمرأة، عبر إعادة الأمر للولايات ليتخذ كلٌّ منها قرارها بشأنه. وهو ما التقطته فورًا اثنتا عشرة ولاية، حتى الآن، فحظرت الإجهاض في عياداتها، بينما تُبقى غيرها على قانونيته.
وقد أظهر استطلاع للرأي العام أجرته “مؤسسة بيو” مؤخرًا حجم الانقسام المجتمعي. فالمفارقة الرئيسية أن قرار المحكمة تعارضه أصلا أغلبية الأمريكيين.
فقد تبين من الاستطلاع أن 57% من الأمريكيين يقرون بحق المرأة في الإجهاض ويعارضون قرار المحكمة العليا. وكان طبيعيًا أن ترتفع نسبة رفض القرار بين الديمقراطيين والمستقلين الذين يميلون نحو اليسار حيث تصل إلى 82%، بينما ترتفع نسبة تأييده بين الجمهوريين إذ تبلغ 70%.
.. وتنعكس الفجوتان الجيلية والتعليمية أيضًا في الاستطلاع، فالشباب والحاصلون على تعليم جامعي يؤيدون الإجهاض ويرفضون قرار المحكمة بنسب تصل للثلثين.
لكن النسب الأكثر خطورة تتعلق بالتباين الجغرافي أي بين الولايات، وبالتباين داخل الولاية الواحدة على أساس عرقي وإثني وديني. ففي الولايات التي حظرت الإجهاض، مثلًا، يتضاءل الهامش بين رافضي القرار (52%) ومؤيديه (47%).
وبينما يرفض الأمريكيون السود وذوو أصول لاتينية وآسيوية قرار المحكمة ويؤيدون الإجهاض بنسب تصل للثلثين، فإن البيض منقسمون على أنفسهم.
فالإنجيليون البيض تحديدا هم الأكثر حدة بين كل الجماعات الأمريكية رفضًا للإجهاض، وبالتالي هم الأكثر تأييدا لقرار المحكمة. باختصار، تمثل تلك الأرقام كلها حالة أمة تعانى استقطابًا مجتمعيًا لا مجرد استقطاب سياسي بشأن قضية كبرى.
وهو استقطاب يماثله استقطاب مجتمعي في قضايا أخرى متعددة، من حقوق غير البيض الاجتماعية والسياسية لدور الدين في السياسة. لكن الأخطر من هذا كله هو ما نُشر الأسبوع الماضي في الصحف الأمريكية.
فرغم أن الأمريكيين معروف عنهم كثرة التنقل للسكن والمعيشة بين الولايات إلا أن الفترة القصيرة الماضية شهدت مثل ذلك الانتقال لأسباب جديدة.
فلم يعد الأمريكيون ينتقلون فقط من ولاية لأخرى بحكم الوظيفة أو الدراسة أو بحثًا عن انخفاض تكاليف المعيشة وإنما صاروا يختارون أيضا الولاية التي تتفق ميول سكانها الأيديولوجية مع ميولهم.
فالليبراليون منهم باتوا يهجرون ولايات الجنوب، بينما يفضل المحافظون والمتدينون البيض الانتقال إليها!
* د. منار الشوربجي أستاذ العلوم السياسية المساعدة، باحثة في الشأن الأمريكي
المصدر| المصري اليوم
موضوعات تهمك: