أجدني أسير هذه الدائرة الجهنمية التي تتجدد دوائرها بدلاً من أن تقفل على شيء اسمه النهاية.
الدوائر تدور بنا. والدوائر في لغة العرب هي الدواهي أو المصائب. والمصائب تدور قبل أن تحل على ضحاياها. تقول العرب: «دارت عليه الدوائر».
نجح لبنان في تقديم أمثولة جديدة في علم السياسة، فالبلد يعيش حربا أهلية دون حرب، وحربا إقليمية دون مدافع، واستقرارا في الخراب دون خراب شامل.
بري رئيساً أبدياً لمجلس النواب، وميقاتي رئيسا مؤقتا للحكومة، وترسيم الغاز البحري مع العدو يسير على الإيقاع البطيء للمبعوث الأمريكي. «وكلُه تمام»!
نحن في بيروت، رغم كل الدوائر، نشهد للنهايات ونستعجل نهايتها وفي الانتظار نحلم أننا أحياء، ونرسم صورتنا على مرايا احتمالات الحياة وسط ضجيج الموت.
شيء يدعو إلى الحيرة، كيف لا ينفجر الأفراد بل يرتضون موتاً بطيئاً؟ كيف تستمر السياسة في لعبتها بدون سياسة؟ كيف لم يبق من بيروت سوى اسمها المعلق على قبرها المفتوح؟
* * *
وأخيراً، أعيد تكليف نجيب ميقاتي بمهمة تشكيل الحكومة اللبنانية أو ترميم حكومته المستقيلة أو تعويمها، وقلنا خلاص، اكتملت الدائرة.
بري رئيساً أبدياً لمجلس النواب، وميقاتي رئيسا مؤقتا للحكومة، وترسيم الغاز البحري مع دولة الاحتلال يسير على الإيقاع البطيء للمبعوث الأمريكي. «وكلُه تمام».
شبح الحرب انقشع مؤقتاً بعد حفلة التهديدات الإسرائيلية، إذ من الواضح أن إيران لا تريد الحرب الآن، كما أن إسرائيل تخشاها، والأمور وصلت إلى نهاياتها المؤقتة.
لقد نجح لبنان في تقديم أمثولة جديدة في علم السياسة، فالبلد يعيش حرباً أهلية من دون حرب، وحرباً إقليمية من دون مدافع، واستقراراً في الخراب من دون خراب شامل.
شيء يدعو إلى الحيرة، كيف لا ينفجر الأفراد بل يرتضون موتاً بطيئاً؟ كيف تستمر السياسة في لعبتها من دون سياسة؟ وكيف لم يبق من بيروت سوى اسمها المعلق على قبرها المفتوح؟
ومع ذلك، فإن الطيارات الآتية إلى بيروت مليئة بخليط عجيب من اللبنانيات واللبنانيين، الآتين لتفقد ما تبقى ومن تبقى.
بالأمس كنت عائداً من فيينا عن طريق إسطنبول، حيث شاركت في ملتقى مؤسسة كرايسكي، الذي منح جائزته لحقوق الإنسان لمنظمة «الحق»، التي صنفتها إسرائيل منظمة إرهابية، وفي الطيارة التركية المليئة بالركاب سمعت عجبا.
كانت اللغات تتطاير في فضاء الطيارة، كأننا في برج بابل: البرتغالية والإسبانية والإنكليزية والفرنسية، ولغات لا أعرفها. لبنانيون عائدون لقضاء بضعة أيام في وطنهم، يشدهم الخوف واليأس. حين تسألهم عن لبنان تشرق وجوههم للحظات قبل أن ترتسم عليها علامات القرف والحزن.
لكنهم جاؤوا، كأن لبنان ليس موجوداً سوى في ذاكراتهم، أو كأنهم جاؤوا ليتأكدوا من صواب خياراتهم بترك هذه البلاد لمصيرها.
سألت امرأة آتية من البرازيل ماذا تحمل في حقيبتها الكبيرة، فأجابت ببساطة لا مبالية، «معي خبز وأدوية، فكرت كتير شو لازم احمل معي، اشتريت هدايا لأمي وإخوتي، بعدين قررت ما احمل معي شي منها، وجبت خبز».
في الكلام الذي كان المهاجرون- الزائرون يتبادلونه عن أحوالهم في القارات المختلفة، لم أسمع سؤالاً سياسياً واحداً.
حاولت أن أسأل مهاجراً عائداً من كندا ويحمل الجنسيتين الكندية والبرازيلية، عن رأيه في الأوضاع اللبنانية، فقال إنه هاجر إلى أقاصي كندا كي يعيش، وإنه هارب من السياسة، ولا يهمه ما يجري هنا.
لم أسأله ماذا أتى به إلى بيروت، كي لا أستمع إلى الجواب نفسه المصنوع من عبارة واحدة هي تفقد أحوال العائلة.
طوال الرحلة لم أسمع كلمة حنين واحدة، كأن اللبنانيين فقدوا قاموس الحنين القديم الذي حفلت به الموجة الأولى من هجرة الحرب، والتي احتلها وديع الصافي وفيروز وصباح بأغنيات النشيج والفقد.
رأيتني مع هجرة أنضجتها المرارة، وحطمت قاموسها القديم هجرة يتكلم صمتها، فهي لا تملك سوى مشروع واحد اسمه الهرب من الكارثة.
لكن الكارثة ترخي بثقلها، كل شيء متهالك في المدينة، من المطار إلى السائقين، إلى الحمالين، إلى آخره… لم يسبق لي أن رأيت عيوناً هكذا. كانت عيون الناس متهالكة هي أيضاً، عيون نضب فيها الماء، وصارت جدراناً يحتلها الخراب.
عندما وصلت إلى البيت، ولفتني العتمة التي صارت اسمنا الجديد، تساءلت بيني وبين روحي، إلى متى؟
إلى متى تستطيع هذه البيروت الجديدة اغتيال قلبي، بدلاً من أن أكتب عن لقاءات فيينا الغنية بسحر الكلام والحيوية الفكرية، وبدلاً من رثاء أصدقائي في مواسم موت هذا الجيل التي توّجها حسن العبد الله بشعره الطفولي، وبدلاً من تأمل هذا البحر الشاسع الذي يرتسم خصراً على بلاد الشام، أجدني أسير هذه الدائرة الجهنمية التي تتجدد دوائرها بدلاً من أن تقفل على شيء اسمه النهاية.
لكن الدوائر تدور بنا. والدوائر في لغة العرب هي الدواهي أو المصائب. والمصائب تدور قبل أن تحل على ضحاياها. تقول العرب: «دارت عليه الدوائر».
تخيّل أجدادنا المصائب كدائرة تستولد دائرة جديدة، وإلى آخر ما لا آخر له.
خلعت الدوائر ثوب المجاز والاستعارة لتصير حاضرنا اللبناني والعربي. فدوائرنا لا تنتهي، كأن أسياد هذا الزمن المنقلب لا يملون من إنزال دوائرهم بنا، بحيث نفد الكلام وصار دوائر لإفراغ الكلام من المعنى.
الكلام عن عفن طائفة السياسيين والمافيويين صار مملاً. هل يستحق «الزمك» [القزم] الطامح إلى الرئاسة، خلفاً لوالد زوجته، كلاماً بعدما قيل كل الكلام؟
وماذا نقول عن الحاكم في مصرفه المفلس، أو عن الرئيس المزمن في برلمانه، أو عن عصابات اللصوص التي سيطرت على لجان مجلس النواب؟
أو عن سفير مملكة النفط والمنشار الذي يعتقد أنه يستطيع أن يصبح زعيماً للمعارضة؟ أو عن حزب المقاومة الذي يحمي ويشارك في نظام المافيا؟
كل ما سنقوله سبق وأن قيل، فلا خيبات ولا مفاجآت.
بلى، الخيبة أتت من مكان الضوء الوحيد، أي من ثلاثة عشر نائباً أطلق عليهم اسم «التغييريين»، فإذا بنا أمام البلبلة والتردد والحسابات الشخصية والصراعات الصغيرة. أهكذا يكون التغيير يا رفاق؟ نستطيع أن نجد عشرات المبررات لهذا الأداء، لكن كل المبررات تفقد معناها أمام رهبة المكان الذي أتى منه هؤلاء.
فالذي اقتحم البرلمان من ساحات الانتفاضة، عليه أن يحترم من وما يمثل. والشرط الأول هو المبادرة والتخلي عن الحسابات الفردية، وقيادة مشروع ديموقراطي اجتماعي طويل النفس من داخل مجلس النواب ومن خارجه.
اخرجوا من هذه الدائرة الجهنمية أيها الأصدقاء والصديقات، كي لا تصيروا جزءاً من الدوائر التي تطبق على صدور الناس.
أما بعد،
فنحن في بيروت، رغم كل الدوائر، نشهد للنهايات ونستعجل نهايتها. وفي الانتظار نحلم أننا أحياء، ونرسم صورتنا على مرايا احتمالات الحياة وسط ضجيج الموت.
* الياس خوري كاتب صحفي وروائي لبناني
موضوعات تهمك: