يثير خطاب “تقرير المصير” لخلق جيوب للناطقين بالروسية، من مولدوفا وجورجيا، إلى آسيا الوسطى، مخاوف على مستقبل عدد من الدول.
رفض الرئيس الكازاخي فكرة الكرملين فرض “استقلال” جيوب، بحجة “حق تقرير المصير”، بمناطق دول أخرى يقيم بها ناطقون بالروسية.
توكاييف: “إذا تحقق حق أي قوم (جماعة) في تقرير المصير في جميع أنحاء العالم، فبدلاً من 193 دولة، ستظهر أكثر من 500-600 دولة”، و”ستكون فوضى”.
الخطاب الروسي عن “تقرير المصير” للناطقين بالروسية، تبريراً لاقتطاع جيوب انفصالية، سيخلق بالمدى المتوسط والبعيد مشاكل داخل الفيدرالية الروسية بنفسها.
كازاخستان استشعرت مستوى التهديد، فقررت إلغاء “عرض يوم النصر” (الروسي) في 9 مايو الماضي على أراضيها وكرر مسؤولون كازاخيون أن ما يجري بأوكرانيا حرب لا “عملية خاصة”، كما يقول الكرملين.
* * *
جاء التوتر الأخير في علاقة روسيا بكازاخستان، الذي نجم عنه إغلاق أنابيب نفط الأخيرة من بحر قزوين إلى ميناء نوفوروسيسك في البحر الأسود، ليزيد مخاوف الكرملين من اتساع تفلت جمهوريات سوفييتية سابقة، وخصوصاً في آسيا الوسطى، من الدوران في فلكه.
تصريحات الرئيس الكازاخي، قاسم جومارت توكاييف، بحضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في القمة الاقتصادية بسان بطرسبرغ نهاية الأسبوع الماضي، أكدت مجدداً تقارير أفادت برفض الأول المساهمة العسكرية في حرب روسيا في أوكرانيا.
توكاييف، من على منصة المؤتمر، وبجانبه بوتين، رد على سؤال رئيسة تحرير “روسيا اليوم” مارغريتا سيمونيان، حول شعور بلاده حيال “العملية العسكرية الروسية الخاصة”، وبشكل مثير لدهشة الحضور، وصف منطقتي دونيتسك ولوغانسك، بـ “الكيانات شبه الحكومية”.
وبشكل مباشر، رفض فكرة الكرملين فرض “استقلال” جيوب، بحجة “حق تقرير المصير”، في مناطق الدول الأخرى التي يقيم فيها ناطقون بالروسية بقوله: “إذا تحقق حق أي قوم (جماعة) في تقرير المصير في جميع أنحاء العالم، فبدلاً من 193 دولة، ستظهر أكثر من 500-600 دولة”، معتبراً أنها “ستكون الفوضى”.
ولم يظهر بوتين امتعاضه الفوري، فمضى الرئيس الكازاخي مذكراً بأنه “لهذا السبب، لا نعترف بتايوان، أو كوسوفو، أو أوسيتيا الجنوبية، أو أبخازيا”.
وأدان أيضاً تصريحات بعض البرلمانيين الروس حول الوضع في كازاخستان، ودعوتهم أيضاً إلى مناطق انفصالية حيث يقيم ناطقون بالروسية، بسبب عدم دعم الحرب.
ولم يمضِ سوى يوم على تصريحات توكاييف، حتى أعلنت موسكو، من خلال موقع “كومرسانت”، أنها ستغلق مؤقتاً محطة بلدة نوفوروسيسك، التي يتدفق منها ثلثا صادرات النفط الكازاخستانية في بحر قزوين.
التفسير الروسي أنه عُثر على 50 لغماً بحرياً بالقرب من خط الأنابيب. وتوقيت الإعلان يقرأه كبير باحثي مركز الدراسات الدولية الدنماركي، الخبير بالشأن الروسي، فليمنغ سبليسدبويل هانسن، في سياق “فرض عقوبات على الحلفاء المقربين سابقاً للكرملين”.
ومضى يؤكد أن روسيا، بعد غزوها المتواصل لأوكرانيا (منذ 24 فبراير/شباط)، “باتت تظهر هذا الشكل من الإمبريالية الجديدة، وهو ما يدفع عملياً بعض الجمهوريات السابقة، بما فيها كازاخستان، إلى طرح أسئلة جدية عن الذي يجري في العلاقة مع تطرف الخطاب القومي الروسي”.
وكان بعض أعضاء البرلمان الروسي (مجلس الدوما) قد ظهروا على القنوات الرسمية في موسكو، مطالبين بضرورة اقتطاع أراضٍ كازاخستانية، عقاباً على تمرد البلد على طلب إرسال جنوده للقتال في أوكرانيا، كما فعل رئيس الشيشان رمضان قاديروف.
الخطاب الإعلامي والبرلماني الحاد من موسكو، مع استمرار غزو أوكرانيا، يشعل، هو وغيره من الأمور، المصابيح الحمراء في العديد من الدول التي كانت تحسب على الفلك السوفييتي.
ويثير خطاب “تقرير المصير” لخلق جيوب للناطقين بالروسية، من مولدوفا وجورجيا، إلى آسيا الوسطى، مخاوف على مستقبل عدد من الدول. ويبدو أن كازاخستان استشعرت مستوى التهديد، فقررت إلغاء “عرض يوم النصر” (الروسي) في 9 مايو/أيار الماضي على أراضيها.
وكرر كبار المسؤولين الكازاخستانيين في أكثر من مناسبة أن ما يجري في أوكرانيا حرب، وليس “عملية خاصة”، كما يطالب الكرملين بوصفها محلياً أو في الدول التي يعتقد أنها تدور في فلكه، والذي يبدو أنه بات يفقد جاذبيته فيها.
تأكيد قاسم جومارت توكاييف الإبقاء على علاقة وثيقة مع روسيا، في مقابلة مع التلفزيون الروسي الأسبوع الفائت، بدا مشروطاً في إطار العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، وهذا بالتأكيد مؤشر غير مبشّر للكرملين، فـ”كازاخستان ثالث أهم أولوية في المجال السياسي لروسيا بعد أوكرانيا وبيلاروسيا”، كما يؤكد سبليدسبويل هانسن.
الضغوط الروسية المتزايدة على الدول الجارة لإرسال جنود، وتخصيص جهود عسكرية لمساعدتها في حربها في أوكرانيا، أو للتملص من العقوبات الغربية، تدفع العديد من دول آسيا الوسطى نحو البحث عن طرق للتفلت من ضغوط الكرملين.
ولا يجد سبليدسبويل هانسن غرابة في أن التأثر بتركيا ينتشر في ذلك الإقليم، “فهم يتحدثون التركية، ولديهم هوية مشتركة، ويرون المجال التركي السياسي أقرب، وبالتالي هناك الكثير على المحك بالنسبة إلى بوتين، لناحية ما إذا كانت هذه المناطق على المدى الطويل تتجه نحو أنقرة بدلاً من موسكو”.
وفي كل الأحوال، يبدو أن موسكو لا تواجه فقط مأزقاً في الفضاء السوفييتي السابق، مع ما يطلق عليه سبليدسبويل هانسن، المتابع بشكل حثيث للمناقشات الروسية، السياسات “الإمبريالية الجديدة”، بل إن الخطاب الروسي عن “تقرير المصير” للناطقين بالروسية، تبريراً لاقتطاع جيوب انفصالية، سيخلق على المديين المتوسط والبعيد مشاكل داخل الفيدرالية الروسية بنفسها، ويشير الباحث الدنماركي إلى الشيشان وتتارستان كنموذجين لما يمكن أن يطرأ في القوقاز، للتمرد على التبعية لروسيا.
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: