توقفت المظالم ضد المسيحيين بسرعة لأن لهم مؤيدين أقوياء بالغرب وتتدخل لصالحهم السفارات الغربية، أما المسلمون فأيتام على مائدة اللئام.
تجديد موجة استخدام البولدوزر ضد احتجاجات المسلمين بالهند كرد فعل السلطات على ذل وهوان تعرضت لهما عالميا لإساءة زعماء الحزب الحاكم للرسول ﷺ.
خروج البولدوزر لتنفيذ سياسات الحزب الحاكم دون إجراءات قانونية ولجوء حكام الهند للفاشية يؤكد دفن أسطورة “أكبر ديمقراطية في العالم” تحت أنقاض بنايات مهدمة.
خرجت البولدوزرات بمناطق احتج مسلموها على الإساءة للرسول ﷺ في عشرات المدن الهندية مؤخرا فاعتقلوا آلاف المسلمين بأنحاء الهند وتمت مصادرة ممتلكات مئات منهم وهدمت بيوت من عدّته السلطات من “قادة” المظاهرات.
* * *
بقلم: د. ظفر الإسلام خان
ظلت الهند منذ استقلالها تدّعي أنها “أكبر ديمقراطية” في العالم، ورغم كثير من العيوب والنقائص والثغرات صدّق العالم هذه الدعوى متغاضيا عن آلاف الاضطرابات الطائفية ضد مسلمي الهند، وإعلان حالة الطوارئ في منتصف السبعينيات ومذابح السيخ (1984) ومذابح كوجرات (2002)، واستمرار الاضطهاد والعنف في حق المنبوذين والقبليين، واستمرار الطبقية في المجتمع الهندي.
وكانت الهند دوما تظهر للعالم أنها تحاول اللحاق بركب العالم المتحضر بتبني التعليم العصري وتحديث الصناعة والزراعة، واهتزت هذه الصورة مرارا، ولكنها استطاعت إقناع العالم بأنها تسعى حثيثا لتحديث بلدها ورفع مستوى مئات الملايين رغم صعاب جمة.
ومن دون شك، كانت هناك رغبة حقيقية في اللحاق بالعالم الحديث ووأد مخلفات عصور الظلام، وتمثل ذلك في إصرار “جواهر لال نهرو” على تحديث الهند وإرساء قواعد الديمقراطية الحقيقية بها في صورة مؤسسات عصرية قوية.
وفي الوقت نفسه، كانت هناك قوى أخرى تعشق عصور الظلام وترى أن الماضي السحيق هو المثل الأعلى الذي يجب على الهند أن تحتذي به. وهذه القوى تؤمن بأن الهند القديمة كانت تتمتع بكل ما يفخر به عالم اليوم من طيران وصواريخ وطب رفيع والقدرة على زرع الأجسام!
وقوى الظلام هذه ترفض الدستور الهندي العلماني، وترفض العلَم الهندي ذا الألوان الثلاثة وتعدّه نحسا على الهند، مفضلةً العلَم الزعفراني، وهي ترفض التنازل عن قوانين “مانو” القديمة التي أسست الطبقية والمنبوذية وعدّت المرأة جنسا أدنى من الرجل، وتمكنت هذه القوى من تكوين منظمة قوية تحت قيادة “آر إس إس” (RSS) التي يحكم الهندَ الآن فرعُها السياسي (حزب الشعب الهندي) منذ مايو 2014.
وهذه القوى الظلامية تعطي أهمية كبرى للقوة، وهي تعبد إلهة القوة (دُورْغا)، وتخرج في مظاهرة مسلحة كل سنة في مختلف المدن الهندية للتعبير عن إيمانها بالقوة، وتعبد السلاح في يوم معين من أيام السنة، ودائما تقف إلى جانب الشرطة والجيش وتؤيد تجاوزاتهما وتطالب بالمزيد من المزايا لها.
وهذه القوى الظلامية تؤمن أيضا بأن الهند للهندوس، وتعني بذلك الطبقات العليا من الهندوس، وأن الأقليات الدينية -خصوصا المسلمين والمسيحيين- لا مكان لها في الهند وإن بقيت فيها فعليها أن تقبل ما يعطى لها ولا تطالب بأية حقوق.
بعد حصول بهاراتيا جاناتا (حزب الشعب الهندي الواجهة السياسية لمنظمة آر إس إس) على الأغلبية الواضحة في البرلمان المركزي أول مرة في مايو 2014، انطلق ينفذ برنامجه للأقليات الدينية -أي المسلمين والمسيحيين- وتمثلت في قتل مئات المسلمين بتهمة تناولهم لحم البقر أو ذبح الأبقار.
والاعتداء على المسلمين بتهمة حمل الهندوس على اعتناق الدين الإسلامي وإغراء الهندوسيات بالزواج من المسلمين، ومعارضة حجاب الطالبات المسلمات، ومعارضة بيع اللحم الحلال، ومعارضة كتابة وصف “حلال” على العبوات الغذائية، وتغيير مئات الأسماء الإسلامية للمدن والقرى والشوارع والطرق بأسماء هندوسية لمحو المسلمين من تاريخ الهند، وتغيير الكتب المدرسية وكتب التاريخ لإخراج أية مواد تشيد بالمسلمين وإدخال مواد مهينة لهم.
وتعديل قانون الجنسية لحرمان ملايين المسلمين من الجنسية الهندية، والدعوة إلى إبادة ملايين المسلمين، واستخدام “البولدوزرات” لهدم بيوت المسلمين ومتاجرهم حين يعارضون اقتحام غوغاء الهندوس أحياءهم رافعين شعارات السب والإهانة للإسلام ورسول الإسلام والمسلمين… إلخ، والقائمة طويلة لا تنتهى.
وتوقفت المظالم ضد المسيحيين بسرعة لأن لهم مؤيدين أقوياء في الغرب وتتدخل لصالحهم السفارات الغربية، أما المسلمون فأيتام على مائدة اللئام.
ويتمثل سوء معاملة السلطات في صورة إساءة الشرطة للمسلمين وعدم الاستماع إلى شكواهم، وعدم اكتراث الجهاز البيروقراطي بالمسلمين، واتخاذ الحكومة خطوات تتعلق بالمسلمين الواحدة بعد الأخرى، دون استشارتهم، كالتدخل في القوانين الإسلامية وإلغاء الاستقلال الذاتي لكشمير ومحاولة تجريد ملايين المسلمين من الجنسية الهندية عن طريق تغيير قانون الجنسية الهندي، مما أجبر ملايين المسلمين على الخروج للاحتجاج أوائل 2020 ضد محاولة تجريدهم من الجنسية الهندية، وظلوا يقيمون مئات المظاهرات المستمرة ليل نهار في طول البلاد وعرضها لمدة 3 أشهر قبل أن تتمكن الحكومة من تفريقها بالقوة متذرعة بإجراءات مواجهة كورونا.
وخلال فترة المظاهرات هذه، التي لم يكن لها نظير في الهند الحديثة، بدأت الحكومة -خاصة في الولايات التي يحكمها حزب الشعب الهندي مثل أوتار براديش- اعتقال مئات من قادة الاحتجاجات، وفرضت عليهم غرامات مالية باهظة، وصادرت ممتلكاتهم أو هدمتها “بالبلدوزر”. وكل ذلك من دون اتباع إجراءات قضائية.
ولم يكن هذا أول استخدام “للبلدوزر” في الهند، فقد سبق لها استخدامه لسنوات طويلة في كشمير من أجل هدم البيوت والبنايات التي يحتمي بها المسلحون الانفصاليون أو يطلقون منها النيران. كما استخدمت الحكومة “البولدوزر” لهدم بيوت من تسميهم “المافيا”، في حين كان أغلبهم سياسيين مسلمين يعارضون سياسات حزب الشعب الهندي.
ووصل بها الأمر إلى أن استخدمت “البولدوزرات” لهدم أجزاء من جامعة جوهر في مدينة رام بور التي بناها الزعيم المسلم والوزير السابق أعظم خان، الذي يعد مناوئا قويا لحزب الشعب الهندي، وأقيمت عليه نحو 80 قضية حتى لا يخرج من السجن، إلا أنه خرج الآن بعد تدخل المحكمة العليا عقب قضاء 27 شهرا في السجن بتهم واهية.
ودائما تتذرع الحكومة بأنها تتخذ إجراءات الهدم ضد “بنايات غير مرخّصة”، رغم أن البنايات المستهدفة هي تقريبا في كل الأحوال للمسلمين الذين يرفعون صوتهم ضد سياسيات الحكومة، وبناياتهم ليست البنايات غير المرخّصة الوحيدة في المنطقة. وقال كبير وزراء ولاية دلهي كيجريوال إن 70% من بنايات العاصمة الهندية “غير مرخّصة”، فهل سيتم هدمها؟
والشيء نفسه ينسحب على كل المناطق الأخرى في الهند، حيث فشلت وكالات الحكومة في توفير وتسهيل بناء مساكن ومتاجر جديدة تواكب متطلبات المجتمع واقتصاد يتوسع بسرعة؛ فقام المواطنون ببناء بيوتهم ومكاتبهم على أرض زراعية وغيرها من دون انتظار الإجراءات الطويلة.
وكان أسلوب الحكومة في التعامل مع هذه المشكلة أنها تأتي كل عدة سنوات فتقوم بتسوية أوضاع أحياء معينة وتعترف بها، ومع ذلك بقيت أغلب المناطق الجديدة غير مرخصة. وبدلا من اتخاذ إجراء ضد هذه المشكلة العامة تأتي الحكومة لهدم بيت أو متجر مسلم معارض لها ثم تتذرع بأنها تهدم بيتا “غير مرخّص”، ويكون ذلك البيت أو المتجر محاطا بآلاف البيوت والمتاجر من النوع نفسه وفي الشارع عينه والمنطقة ذاتها، ولكن لا يتخذ ضدها أي إجراء!
وبدأ استخدام “البولدوزرات” على نطاق واسع في أبريل الماضي، حين حاولت مظاهرات هندوسية صاخبة دخول أحياء المسلمين في نحو 20 مدينة عبر 10 ولايات هندية.
وفي كل مكان حاول المسلمون صد هذه المظاهرات الاستفزازية وصلت “البولدوزرات” سريعا لتهدم بيوتهم كما جرى بمنطقة “جهانغيربوري” بالعاصمة الهندية في 20 أبريل الماضي.
ولم ينقذ “جهانغيربوري” إلا أمر مباشر من المحكمة العليا بوقف الهدم في تلك المنطقة بينما استمر الهدم في مناطق أخرى، بما فيها عشرات من مناطق العاصمة الهندية نفسها في الأيام التالية.
وخرجت “البولدوزرات” مرة أخرى في المناطق التي خرج مسلموها يحتجون على الإساءة للرسول الأكرم في عشرات من المدن الهندية في الأسبوعين الأخيرين.
واعتقل آلاف المسلمين في أنحاء الهند وتمت مصادرة ممتلكات مئات منهم وهدمت بيوت من عدّته السلطات من “قادة” المظاهرات. وكان ذلك -كالعادة- بحجة أنها بنايات “غير مرخصة” رغم أن البيوت المستهدفة تقوم وسط آلاف البنايات “غير المرخّصة”!
ويمكن القول إن الموجة الجديدة من استخدام “البولدوزر” ضد مظاهرات المسلمين الاحتجاجية في أنحاء الهند، خصوصا ولاية أوتار براديش، هي رد فعل السلطات الهندية على الذل والهوان اللذين تعرضت لهما عالميا بسبب إساءة زعماء الحزب الحاكم لمقام رسول الإسلام (ص).
وبما أن الحكومة لا تستطيع سوى السكوت والاعتذار للقوى الخارجية، فهي تصب جام غضبها على “العدو الداخلي”، الذي تراه مسؤولا عن تضخيم الأمر وإيصاله إلى العالم الخارجي.
وهي محاولة أيضا لتهميش مسلمي الهند الذي يظل هدفا ثابتا من أهداف الحركة الهندوسية السياسية التي ينتمي إليها الحزب الحاكم.
ويرى المراقبون أن سياسات التهميش والاضطهاد ضد الأقلية المسلمة ستستمر داخل الهند رغم ردود الفعل الخارجية، وذلك لأن الحزب الحاكم يستفيد سياسيا من هذه السياسة التي تساعده على استقطاب أصوات الهندوس (80%) بمواجهة المسلمين (أقل من 15%).
مما يعني أن الحزب سيظل يفوز في الانتخابات القادمة بإيهام الهندوس بأنه يعمل لأجل مصالحهم ويكبح المسلمين ويهمشهم، إذ لولا حزب الشعب الهندي لتنمر مسلمو الهند ولأصبحوا أكثرية في البلاد!
وهو من دون شك وهمٌ لا حقيقة له على أرض الواقع، لكن لهذه الكذبة فوائدها السياسية حين يؤمن بها عدد لا بأس به من الناخبين الهندوس.
ومهما كان الأمر، فخروج “البولدوزر” لتنفيذ سياسات الحزب الحاكم من دون مراعاة الإجراءات القانونية المتبعة في البلاد الديمقراطية ولجوء حكام الهند إلى قانون الغاب يعني بالتأكيد أن أسطورة “أكبر ديمقراطية في العالم” قد وُئدت نهائيا تحت أنقاض البنايات المهدمة.
* د. ظفر الإسلام خان كاتب ومفكر هندي
المصدر: الجزيرة نت
موضوعات تهمك:
مودي يعبّد طريقه السياسي بدماء المسلمين: ديمقراطية الهند نحو الفاشية