في حال قرّر الغرب والروس التفاوض، كيف يمكن أن تسير المفاوضات؟
توعّد قادة أوروبا والناتو روسيا بهزيمة كبيرة في حرب أوكرانيا، وبمعركة طويلة جداً يتم فيها “استنزاف روسيا وإخضاعها”.
حذّر كيسنجر من خطورة سياسات الغرب، داعيا لبدء مفاوضات مع روسيا خلال شهرين، والذهاب لحلّ سلمي ولو اضطروا لإعطاء روسيا بعض الأراضي.
تشكّل أوكرانيا “دولة حاجزة”، أي دول ضعيفة عالقة في الوسط على خط اشتباك بين قوتين كبريين تطمع كل منهما في السيطرة عليها ومنع الأخرى من ذلك.
تتحوّل الدولة الحاجزة لساحة اقتتال بين محورين، وهو ما حصل بالفعل، حين تأرجحت أوكرانيا بين النفوذ الروسي والنفوذ الغربي، حتى تحوّلت إلى ساحة صراع بينهما.
قد يتمّ تقسيم الدولة الحاجزة بين محورين بحيث يسيطر كل محور على جزء من الجغرافيا، وهو النهاية المتوقعة للصراع الدائر بين الطرفين في ساحة أوكرانيا.
الاتجاه النهائي للتسوية للصراع تقسيم أوكرانيا بحيث تسيطر روسيا على دونباس بينما يسيطر الناتو، عبر بولندا، على الأجزاء الغربية من أوكرانيا،
يرى كيسنجر أنه إذا لم تبدأ المفاوضات في الشهرين المقبلين فالأمور ستتدحرج و”تؤدي لاضطرابات وتوترات لن يتم التغلب عليها بسهولة.. والاستمرار في الحرب بعد ذلك لن يكون حول حرية أوكرانيا، بل حرباً جديدة ضد روسيا نفسها”.
* * *
أعلن الأميركيون قرارهم بتزويد أوكرانيا بصواريخ دقيقة بعيدة ومتوسطة المدى، قادرة على إصابة العمق الروسي، وترافق ذلك مع إعلان الاستخبارات الأميركية أنها شاركت كييف معلومات استخبارية أدّت إلى تكبيد الروس خسائر ميدانية.
وكان العديد من القادة الأوروبيين والأمين العام لحلف الناتو قد توعّدوا روسيا بهزيمة كبيرة في أوكرانيا، وبحرب طويلة جداً يتم فيها “استنزاف روسيا وإخضاعها”، كما أعلن عدد من المسؤولين الأوروبيين أن هدف العقوبات هو “تجويع الروس”. تُعتبر هذه التصريحات توجّهاً لانخراط غربي أكبر في الميدان الأوكراني ضد روسيا.
عملياً، وكما يبدو من مسار الأمور الميدانية والاقتصادية، فإن هذه التهديدات الأوروبية لا يمكن صرفها على أرض الواقع، لكن الانخراط العسكري الأميركي المباشر، وتزويد كييف بالصواريخ، قد يدحرجان الحرب إلى أبعد من الحدود الأوكرانية، وتجد أوروبا نفسها منخرطة في صراع عسكري مكلف.
لكن، كما في العقوبات الاقتصادية والمالية، التي اعتقد الأوروبيون أنها ستضرّ الروس، فأضرّت بالاقتصادات الأوروبية، حذّر كيسنجر من خطورة السياسات التي يقوم بها الغرب، داعياً الولايات المتحدة والناتو إلى بدء مفاوضات مع روسيا في خلال شهرين، وأن يذهبوا إلى حلّ سلمي حتى لو اضطر الأمر إلى إعطاء روسيا بعض الأراضي. وقدم كيسنجر نظرة تشاؤمية لمسار الأمور، معتبراً أنه إذا لم تبدأ المفاوضات في الشهرين المقبلين فإن الأمور ستتدحرج و”تؤدي إلى اضطرابات وتوترات لن يتم التغلب عليها بسهولة… إن الاستمرار في الحرب بعد هذه النقطة لن يكون حول حرية أوكرانيا، بل حرباً جديدة ضد روسيا نفسها”.
وهكذا، في حال قرّر الغرب والروس التفاوض، كيف يمكن أن تسير المفاوضات؟
بشكل عام، تشكّل أوكرانيا مثالاً حياً عن الدول الحاجزة، أي الدول الأضعف التي تجد نفسها على خط اشتباك بين قوتين، وهي عالقة في الوسط، حيث تطمع كل قوة في السيطرة عليها ومنع القوة الأخرى من ذلك.
وتراوح السياسة الخارجية لتلك الدول بين خيارات محدودة أبرزها:
– أن تتفق القوتان المتصارعتان على تحييدها في الصراع. لا يكفي أن ترغب الدولة الحاجزة بذلك، بل يجب أن يحظى الحياد بموافقة الدول الكبرى. وهذا ما كان يطلبه الروس قبل بدء الحرب وتمّ رفضه من قبل حلف الناتو.
– أن تقوم الدولة الحاجزة بعقد تحالف مع إحدى القوتين، وهذا يتطلب غضّ نظر أو قبول القوة الأخرى بهذا التعديل في موازين القوى وهو أمر صعب. وبالفعل، لم تقبل روسيا ولا أوروبا بالتخلي عن أوكرانيا (منذ قيام الغرب بدعم الثورة الملوّنة عام 2004).
– أن تتحوّل الدولة الحاجزة إلى ساحة اقتتال بين المحورين، وهو ما حصل بالفعل، حين تأرجحت أوكرانيا بين النفوذ الروسي والنفوذ الغربي، حتى تحوّلت إلى ساحة صراع بينهما.
– أن يتمّ تقسيمها بين المحورين بحيث يسيطر كل محور على جزء من الجغرافيا، وهو ما سيكون النهاية المتوقعة لهذا الصراع الدائر بين الطرفين في الساحة الأوكرانية.
عملياً، بعد أن تيقّن الناتو من عدم قدرته على إغراق الروس في المستنقع الأوكراني، وبعد أن فشلت العقوبات الأوروبية والغربية في “تجويع روسيا وإخضاعها”، يحتاج الغربيون إلى خطة واضحة (بعد إطالة أمد الحرب) يواجهون فيها الشتاء المقبل، وازدياد الحاجة الأوروبية إلى الطاقة والغاز والكهرباء، ومواجهة ارتفاع الأسعار.
ولكن يبدو أن الاتجاه النهائي للتسوية في أوكرانيا سيكون تقسيم أوكرانيا، بحيث تسيطر روسيا على دونباس (المناطق التي كانت جزءاً من روسيا تاريخياً) بينما يسيطر الناتو، عبر بولندا، على الأجزاء الغربية لأوكرانيا، علماً بأن العديد من الأقاليم الغربية، ومنها لفيف، كانت جزءاً من بولندا تاريخياً.
بالرغم من الإنكار البولندي لرغبة بولندا في السيطرة على الأجزاء الغربية لأوكرانيا، شهد شهر مايو المنصرم توقيع اتفاقيات بين زيلنسكي والرئيس البولندي أندريه دودا، بقيت محاطة بالسرية، إلا ما رشح حولها من تصريحات الرئيسين.
تحدّث كلّ من زيلنسكي والرئيس البولندي عن غياب الحدود بين الدولتين، والرقابة المشتركة على الحدود والجمارك، وفي تصريح متلفز تحدث الرئيس البولندي أندريه دودا، عن أنه لن تكون في الواقع حدود بين البلدين، و”سوف نعيش معاً على هذه الأرض، نبني ونعيد بناء سعادتنا المشتركة وقوتنا المشتركة معاً، ما سيتيح لنا صدّ أي خطر أو أي تهديد محتمل”. وتحدثا عن حق البولنديين في تولّي مناصب قيادية وحكومية في أوكرانيا، وتمتّع الأوكرانيون بجميع حقوق البولنديين في بولندا.
من المفترض أن توقّع الاتفاقيات بشكل نهائي في كانون الثاني/ يناير عام 2023، حيث أشار دودا إلى أنه سيكون من الرمزية توقيع مثل هذه الاتفاقية في هذا التاريخ، بمناسبة الذكرى الـ160 لانتفاضة يناير، التي قاتل خلالها البولنديون والأوكرانيون ضد هيمنة الإمبراطورية الروسية.
في النتيجة، سوف تنتهي الحرب، ومن الصعب عودة أوكرانيا إلى ما قبل فبراير 2022. لعل الخطأ الذي وقع فيه كل من الأوكرانين وحلف الناتو هو عدم القبول بتحييد أوكرانيا كما طالب الروس، فتحوّلت إلى ساحة صراع بينهما لن ينتهي سوى بالدمار والتقسيم، حيث يتشاطر الناتو وروسيا أجزاءً من أوكرانيا، وهذه هي النتيجة الطبيعية لدولة حكمها الخارج عبر سياسيين – أدوات.
* د. ليلى نقولا أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
المصدر: الميادين
موضوعات تهمك: