أدت العولمة لاتساع الفجوة بمستوى الدخل بين الأفراد داخل الدولة الواحدة، وبين الدول إجمالا.
حرب أوكرانيا التي اندلعت في فبراير الماضي أتت لتضيف مزيداً من العقبات أمام ظاهرة العولمة.
هجرة الوظائف والصناعات واتساع فجوة توزيع الدخل قادا لتطور سياسي نحو معاداة العولمة وتصاعد نفوذ الأحزاب المتطرفة الشعبوية.
ساعدت العولمة كثيراً من الشعوب في تحسين مستويات معيشتها، إلا أنها زادت بشكل ملحوظ من الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء.
أوضاع العولمة توشك أن تتغير نتيجة انتهاج دول عديدة سياسات حمائية ونتيجة توترات سياسية أدت لتقلص وانكماش العلاقات الاقتصادية والدولية.
تصاعدت نزعات حمائية إزاء تداعيات العولمة السلبية؛ فرغم توسع خيارات الحصول على منتجات وخدمات متنوعة بأسعار تنافسية لكن أدت لهجرة وظائف وأنشطة اقتصادية.
* * *
بقلم: جاسم المناعي
أحداث عالمية مهمة شهدها العالم مؤخراً أدت إلى إعادة النظر في موضوع العولمة التي راجت بشكل كبير خلال العقود الثلاثة الماضية. وتكاد جميع دول العالم تكون قد شاركت بشكل أو بآخر في انتشار العولمة بغض النظر عن المنهج السياسي والأيديولوجي الذي تتبناه هذه الدول.
بل إن بعض المفكرين قد وصف هذا الوضع من خلال تصور الكرة الأرضية وقد أصبحت مسطحة بما معناه أن أوضاع الدول أصبحت متشابهة ومتماثلة إلى حد كبير، خاصة في أنماط المعيشة والممارسات المالية والاقتصادية، وحتى في الأنظمة والممارسات السياسية.
هذه الأوضاع توشك الآن أن تتغير من جانب نتيجة توجه كثير من الدول في انتهاج سياسات حمائية، ومن جانب آخر نتيجة التوترات السياسية التي أدت إلى تقلص وانكماش في العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية. وضمن هذا الإطار يمكن أن نركز بشكل أكثر تحديداً على ثلاثة متغيرات أساسية في هذا الشأن.
المتغير الأول يتعلق بتصاعد النزعات الحمائية بسبب التداعيات السلبية للعولمة. وبالرغم من أن العولمة قد وسعت من خيارات الدول والأفراد في الحصول على منتجات وخدمات متنوعة وبأسعار وتكاليف تنافسية إلى حد كبير، إلا أنها مع ذلك أدت إلى هجرة كبيرة لبعض الوظائف والأنشطة الاقتصادية.
فالعولمة وإن أدت لازدهار بعض المناطق الجغرافية في العالم، إلا أنها في المقابل أفقدت صناعات ومناطق أخرى تقليدية ذلك الزخم الذي تمتعت به خلال الفترة السابقة لظهور وانتشار العولمة.
وبالطبع فإن مثل هذه التغيرات قد رافقها انتقال كثير من الوظائف والأعمال من الدول والمناطق التقليدية إلى مناطق جغرافية جديدة أكثر تنافسية، ليس بالضرورة على أساس رخص الأيدي العاملة فقط، ولكن أيضاً بسبب كفاءة الأداء ومستوى الإنتاجية والانضباط، وغيرها من سلوكيات العمل.
المتغير الثاني في ردة الفعل تجاه العولمة هو ما ترتب عليها من اتساع الفجوة في مستوى الدخل بين الأفراد داخل الدولة الواحدة، وفيما بين الدول بشكل عام. صحيح أن العولمة قد ساعدت كثيراً من الشعوب في تحسين مستويات معيشتها، إلا أنها زادت بشكل ملحوظ من الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء.
وللأسف لم تتمكّن السلطات التشريعية من التصدي لهذه الظاهرة، الأمر الذي انعكس في شكل تذمر وعداء للعولمة. هذان المتغيران المتمثلان في هجرة الوظائف والصناعات واتساع الفجوة في توزيع الدخل كانا وراء تطور سياسي لا يقل أهمية في معاداة العولمة والمتمثل في تصاعد شعبية الأحزاب المتطرفة والمتعارف عليها بالأحزاب الشعبوية.
هذه الأحزاب في الواقع تستقي شعبيتها المتصاعدة من التذمر والعداء للعولمة، وبالتالي ما دامت هذه الأحزاب تحظى بالتأييد والقبول والانتشار فإن استعادة العولمة لمكانتها وحيويتها قد تكون أمراً صعباً إن لم يكن مستبعداً على الإطلاق.
يبقى أن نتطرق إلى المتغير الثالث والأخير في تطور مجرى الأمور حول العولمة. حرب أوكرانيا التي اندلعت في فبراير من هذا العام أتت لتضيف مزيداً من العقبات أمام ظاهرة العولمة.
وبغض النظر عن المبررات التي على أساسها اتخذت الدول الغربية كثيراً من الإجراءات تجاه روسيا، إلا أنه في المحصلة فإن هذه الإجراءات تؤدي إلى إضعاف العلاقات الاقتصادية بين الغرب وروسيا، بما يشمل العلاقات التجارية والاقتصادية والمالية.
إن مقاطعة الغرب لاستيراد النفط والغاز الروسي من شأنها فقدان شريان مهم من التعاملات التجارية. كذلك فإن عزل بعض المصارف الروسية عن التعامل من خلال نظام المدفوعات العالمي، من شأنه كذلك أن يقلص من حجم التحويلات المالية.
على صعيد آخر فإن الشلل الذي تعاني منه موانئ التصدير الأوكرانية نتيجة لهذه الحرب من شأنه أيضاً أن يعيق انتقال المحاصيل والمواد الغذائية ويفقد بالتالي التجارة الدولية جزءاً مهماً من التعاملات التي ترسخت مع تطور واتساع ظاهرة العولمة.
ولا يجب مع ذلك أن نعتقد بأن هذه العقبات التي تواجه العولمة نتيجة حرب أوكرانيا سوف تختفي بمجرد انتهاء هذه الحرب؛ حيث إن المفاوضات لإخراج روسيا من الأراضي التي احتلتها في أوكرانيا وكذلك إجبارها على دفع تعويضات الدمار الذي لحق بأوكرانيا لن تكون عملية سهلة أو سريعة.
وبالتالي ستستمر المقاطعة الاقتصادية لروسيا لفترة طويلة نسبياً، الأمر الذي سيكرّس من هذا الوضع، ويؤجل في عودة العلاقات الاقتصادية الدولية لسابق عهدها، وبالتالي استمرار تراجع العولمة، وتضاؤل فرصها في استعادة الزخم الذي شهدته خلال الفترة الماضية.
إذاً فالأوضاع الحالية والتي أهمها النزعة الحمائية واتساع الفجوة في مستويات الدخل بالإضافة إلى تصاعد شعبية الأحزاب المتطرفة وتداعيات حرب أوكرانيا، كلها عوامل وأسباب تشير إلى أن تراجع العولمة لا يبدو مجرد ظروف مؤقتة، بل هي حسبما يبدو أوضاع متشابكة ومعقدة، وقد تكون عسيرة الحل على الأقل في المدى المنظور.
* د. جاسم المناعي المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي سابقا
المصدر: الخليج – الدوحة
موضوعات تهمك: