المضامين التافهة أكثر قدرة على جلب المتابعين لأنها لا تخاطب العقل بل تتجه صوب الغرائز والشهوات مما يساهم بقوّة في نشر التفاهة.
مطلوب صياغة بدائل ومضامين هادفة تحاصر السموم عبر أنساق تعليمية وتثقيفية وتوعوية تخاطب وعي الإنسان وذوقة بالمدرسة والبيت والفضاء المدني.
قد يقول قائل إن الفضاء مفتوح للمضامين القيّمة والمقولات الهادفة والأفكار الملتزمة فلماذا لا تنتشر هذه وتحدّ من قدرة المضامين الهدامّة على الانتشار؟
التطبيقات العالمية حوّلت منصات التواصل لأدوات ربح مادي بقطع النظر عن مضامينها وهذه الظاهرة تشكل تهديدا جدّيا لقيم المجتمعات وثقافات الشعوب وشخصيات الأفراد خاصة الشباب والمراهقين والأطفال.
* * *
بقلم: محمد هنيد
مع الثورة الرقمية التي عرفها العالم خلال مطلع الألفية الثالثة وانتشار الوسائط البصرية ومواقع التواصل الاجتماعي المكتوبة والمرئية، اكتسحت الرداءة كل الفضاءات الفردية والجماعية.
خرجت للعلن أجيال من المؤثرين بأسماء جديدة ومضامين صادمة وانفجرت الحدود بين الفضاء العام والفضاء الخاص، وتراجعت أمام هذه الموجة العارمة كل وسائل الاتصال والإعلام التقليدية.
لا يمكن من جهة أولى إنكار قانون التطور الطبيعي للوسائل البصرية، ولا يمكن بأي حال التشبث بالوسائط القديمة لأن قانون التطور البشري محكوم بالإلغاء مهما حاول القديمُ الصمود ووقف دورة الزمن.
لكن من جهة ثانية لا يمكن أن يكون التطور تطوّرا إلا إذا ساهم في رفع قدرات الأدوات القديمة، وتجديد فعاليتها ونجاعتها شكلا ومضمونا.
من جهة الشكل تمثل الوسائط الجديدة نقلة نوعية في قنوات التواصل الاجتماعي لكنها من جهة المضمون فقدت السيطرة على طبيعة المحتوى المقدّم بشكل صار يمثل تهديدا حقيقيا لقيم المجتمعات ومخزونها الثقافي.
صحيح أن مواقع التواصل قد كسرت احتكار السلطة السياسية للخبر والمعلومة وهذا إنجاز يحسب لها لكنها دمّرت مضامين التواصل بعد أن صارت أخبار التفاهة ومضامين الرداءة مسيطرة على الفضاء الرقمي.
قد يقول قائل: إن الفضاء مفتوح كذلك للمضامين القيّمة والمقولات الهادفة والأفكار الملتزمة؟ فلماذا لا تنتشر هذه المضامين وتحدّ من قدرة المضامين الهدامّة على الانتشار؟
الجواب بسيط فالمضامين التافهة أكثر قدرة على جلب المتابعين لأنها لا تخاطب العقل، بل تتجه صوب الغرائز والشهوات وهو الأمر الذي يساهم بقوّة في نشر المضامين التافهة، ثم إنّ التطبيقات العالمية حوّلت منصات التواصل إلى أدوات للربح المادي بقطع النظر عن مضامينها.
هذه الظاهرة صارت اليوم تشكل تهديدا جدّيا لقيم المجتمعات وثقافات الشعوب وشخصيات الأفراد خاصة منهم الفئات الأكثر هشاشة وقابلية للتأثّر وهي فئة الشباب والمراهقين بل وحتى الأطفال.
قد لا يتعلّق ذلك فقط بطبيعة المضامين المنافية للأخلاق والمعتقدات والمبادئ بل يتصّل أساسا بقدرة هذه المضامين على تشكيل وعي الأجيال القادمة تشكيلا ينسف قدرتها على الصمود أمام زحف القيم والسلوكات الغازية، وهو الأمر الذي يفرض على الدول العربية وعلى السلطات القائمة صياغة مشاريع تواصلية قادرة على الحدّ من تأثيرات هذه الموجة الهدامة التي تستهدف أبناء الأمة وعقول أجيالها.
لن تكون إجراءات المنع والإغلاق ناجعة بل ستظلّ محدودة الفعالية ما لم تتم صياغات بدائل ومضامين هادفة قادرة على محاصرة السموم، عبر أنساق تعليمية وتثقيفية وتوعوية مغرية تخاطب وعي الإنسان وذوقة في المدرسة والبيت وكل الفضاء المدني للأطفال والشباب خاصة.
* د. محمد هنيد أستاذ العلاقات الدولية بجامعة السوربون، باريس.
المصدر: الوطن – الدوحة
موضوعات تهمك: