خطّة تقليص الصراع مع الفلسطينيين تحولت إلى خطة تفجير بعثرتها رياح الأحداث المتلاحقة.
الحل الوحيد لإفشال خطط الاحتلال في تزيين احتلاله، والاستمرار في جعله مربحاً، هو استمرار المقاومة بأشكالٍ شتّى.
تقوم فكرة “تقليص” الصراع تقوم على جملةٍ “خزعبلات” تظهر بينيت في صورة “الزعيم” المجدّد في التعامل مع مشكلة الكيان الوجودية.
برع الشعب الفلسطيني في اجتراح أساليب جديدة في المقاومة، فشلت معها كل خطط الكيان في إخضاعه أو تدجينه، فما بالك بهزيمته أو “تقليص” الصراع معه.
* * *
بقلم: حلمي الأسمر
تفاخر رئيس حكومة الكيان الصهيوني، نفتالي بينيت، في بداية تسلمه منصبه، بأنه جاء بما لم يجئ به أحدٌ من أسلافه، عبر “اجتراح” مصطلح جديد في السياسة الإسرائيلية، يقوم على فكرة “تقليص الصراع” مع الشعب الفلسطيني لا حلّه.
ولطالما كرّر، في غير مناسبة وموقع، أنّه يرفض الدخول في أيّ عملية سياسية مع أي طرفٍ فلسطيني، حتى ولو كان “شريك” الكيان في رام الله، ناهيك بـ”عدوّه” اللدود في غزّة، ولطالما زاد وعاد في موضوعة “الدولة” الفلسطينية، ورفضه حتى الحديث بشأنها مع أي أحد، على الرغم من أنها كفكرة كانت من ضمن خطّته في “التقليص”، ولو جاءت في شكل مسخٍ أقرب منه إلى أيّ شيء آخر.
تقوم فكرة “تقليص” الصراع الذي كتب صاحب هذه السطور فيها في “العربي الجديد” قبل نحو تسعة أشهر، “جديد حكومة بينيت: ‘تقليص’ الصراع لا حله”، تقوم على جملةٍ من “الخزعبلات” التي تظهر بينيت في صورة “الزعيم” المجدّد في التعامل مع مشكلة الكيان الوجودية، وهي الشعب الفلسطيني، الذي برع في اجتراح أساليب جديدة في المقاومة، فشلت معها كل خطط الكيان في إخضاعه أو تدجينه، فما بالك بهزيمته أو “تقليص” الصراع معه.
وترتكز “رؤية” التقليص إياها على ثمانية أركان، سمّيت خطة ثمانية زائداً خمسة، وتهدف إلى تقليل الاحتكاك بين الفلسطينيين والإسرائيليين، من دون أي حلولٍ سياسية سيادية، ومن دون أن تهدد “أمن إسرائيل… والثمانية هي:
أولاً، ربط كلّ مناطق (أ) و(ب) داخل الضفة الغربية ببعضها من خلال إنشاء بنية تحتية من الشوارع السريعة والأنفاق والجسور، ليتنقل الفلسطيني من الخليل إلى جنين مرورا بأريحا من دون أن يشعر بأنه تحت احتلال، ومن دون أن يلتقي بجندي إسرائيلي واحد، أو يتوقف عند حاجز، بهدف تغيير الواقع المرير الذي يعيشه الفلسطيني.
ثانياً، منح مساحات إضافية للسلطة الفلسطينية، تكون على أطراف القرى والمدن، وهي أطرافٌ توسع الفلسطينيون أصلاً عليها بشكل “غير قانوني” حسب قانون الاحتلال طبعاً.
ثالثاً، توسيع جسر اللنبي وتسهيل تنقل الفلسطينيين، بحيث لا يمكث الفلسطيني في الجسر أكثر من نصف ساعة لاجتيازه، بدلاً من ثماني ساعات، إضافة إلى افتتاح محطة مغادرين في الضفة الغربية تكون مرتبطة مباشرة مع مطار اللد (بن غوريون)، وتسيير خط حافلات بينهما ليسافر الفلسطيني مباشرة عبر المطار.
رابعاً، زيادة عدد تصاريح العمال الفلسطينيين ليصل إلى حوالي 400 ألف.
خامساً، تخصيص مساحات في المنطقة (ج) لغرض إنشاء مدن صناعية.
سادساً، ربط التجار الفلسطينيين بخطوط مباشرة مع الموانئ البحرية والجوية الإسرائيلية على نمط الخطوط اللوجستية المسمّاة “باب إلى باب”، والتي ستعفي التاجر الفلسطيني من المرور عبر المعابر التجارية المرهقة من خلال فتح مسار “آمن” له.
سابعاً، إلغاء اتفاقية باريس الاقتصادية التي يعدّها الفلسطينيون إعادة إنتاج للاحتلال بأدوات اقتصادية. وصولا إلى منح استقلالية اقتصادية شبه كاملة للفلسطينيين.
ثامناً، انضمام إسرائيل إلى جهود القيادة الفلسطينية الرامية إلى الاعتراف بفلسطين كدولة في الأمم المتحدة (!)، بيد أنّ اعتراف العالم يجب أن يكون بدولة فلسطين، وليس اعترافاً بحدودها (دولة بلا حدود).
والهدف تحوّل السياسات الإسرائيلية من سياسات “الضم الزاحف” إلى سياسات “الانفصال الزاحف” من دون التزامات جغرافية أو سياسية أو أمنية حقيقية، إذ تتضمّن الخطة ملحقاً أمنياً يبقي الكلمة العليا في كلّ الأراضي المحتلة لجيش الاحتلال وأجهزته الأمنية مع “منحه” طبعاً مساحة بلا حدود للحركة وفي جميع المواقع!
لو نظرنا ملياً إلى بنود خطة التقليص، وقارنّاها بما حصل فعلاً خلال عمر حكومة بينيت غير المستقرّة، كونها برأسين، يميني وشبه معتدل، وجسم يميني مختلط وذنب يساري – عربي، ولا تحظى بالأغلبية المريحة في الكنيست، لرأينا أن خطّة التقليص تحولت إلى خطة تفجير بعثرتها رياح الأحداث المتلاحقة. وبنظرة فاحصة، يلاحظ أنّ ما جرى تطبيقه من تلك الخطة، إذا استثنينا ملحقها الأمني، لا يزيد عن بعض التسهيلات للتجار الفلسطينيين، فضلاً عن زيادة تصاريح للعمل داخل الكيان. أما غير هذا، فلم يتم مسّه، بل ربما عملت حكومة بينيت على عكسه، خصوصاً في ما يتعلق بخطوات الاستيطان وتوحشه عبر التوسع في بناء الجديد وتسمين القائم، ناهيك بالاستمرار في سياسة هدم منازل الفلسطينيين في مناطق (ب) و(ج) التي تقول سلطات الاحتلال إنّها أقيمت بلا ترخيص لا يُمنح أصلاً لطالبيه!
الملاحظة الأكثر أهمية هنا، وهي لب موضوعنا، أن السبب الرئيس الذي فجّر خطة التقليص تلك ليس فقط نوايا بينيت ولا عجزه عن الإتيان بسياسة جديدة بسبب تركيبة حكومته الهجينة، والصراعات المميتة داخلها، بل السبب الأهم تصاعد المقاومة الفلسطينية بشكل لافت في الضفة الغربية والداخل الفلسطيني المحتل، من دون أن تضطر مقاومة غزة إلى الدخول في مواجهةٍ مفتوحة، فقد أدخلت سلسلة عمليات فدائية لما تسمّى “الذئاب المنفردة” إدارة الاحتلال في دوّامةٍ لم تكد تصحو معها حتى اليوم، وجاء موسم الرباط في الأقصى والمواجهات اليومية بين جماهير فلسطين الزاحفة وقوات أمن الاحتلال لتزيد الطين بلّة على حكومة بينيت، فلم تكد تخرج من دوامة إلا لتدخل في أخرى، ما جعل خطة التقليص أضحوكةً سياسية.
في المحصلة، الحل الوحيد لإفشال خطط الاحتلال في تزيين احتلاله، والاستمرار في جعله مربحاً، هو استمرار المقاومة بأشكالٍ شتّى، فهو من الصلف والعجرفة والإجرام ما يجعله من الذين لا يفهمون غير لغة القوة، (أو كما قال رئيس جهاز الموساد الثامن، داني ياتوم، إنّ إسرائيل لا تتحرّك إلا والمسدس على رأسها)، وهي اللغة التي اعتمدها الكيان منذ 74 خريفاً، هي عمر “استقلاله” ونكبتنا!
* حلمي الأسمر كاتب صحفي من الأردن
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: