أخطر ما تواجهه الدول والمجتمعات، هو اتساع “فجوة الثقة” بين السلطات والمؤسسات من جهة، والرأي العام من جهة ثانية!
يبدو أن عزوف الناس عن المشاركة، لا يزعج أحداً من صنّاع القرار، بل قد يرى بعضهم فيه وسيلة لطلب “الراحة” والابتعاد عن “وجع الرأس”.
ثلثا المجتمع الأردني لا يثقون بالحكومات والبرلمان وأغلب مؤسسات الدولة، وحين يتعلق الأمر بالأحزاب السياسية تقفز النسبة لرقم أعلى من ذلك بكثير.
الحكومات ترغب في أن تجتاز نسبة الاقتراع خمسين بالمئة، لإضفاء قدرٍ من “الشرعية” و”الجدية” على العملية السياسية، لكن المواطنين يردون بتسجيل نسبة لا تبلغ 30 بالمئة.
* * *
أغلب استطلاعات الرأي العام الأردني المتعاقبة، وآخرها ما صدر حديثاً، تشير إلى أن ثلثي المجتمع الأردني تقريباً، لا يثقون بالحكومات والبرلمان وأغلب مؤسسات الدولة، وحين يتعلق الأمر بالأحزاب السياسية تقفز النسبة إلى رقم أعلى من ذلك بكثير.
ولعل آخر مفارقات ”فجوة الثقة“ بين الأردنيين وأحزابهم السياسية، أن واحداً بالمئة فقط منهم، ينوي الانتساب إليها في المستقبل، ولقد لمسنا فداحة الظاهرة لمس اليد، في سلسلة الانتخابات المتعاقبة، حيث تتفشى ظاهرة “عضو الحزب مرشح العشيرة”، أو من يمكن وصفهم بـ“الخلايا النائمة“ للأحزاب التي يصل أعضاؤها إلى قبة البرلمان تحت عباءة العائلة أو العشيرة، ومن بعد ذلك يفصحون (أو لا يفصحون) عن هويتهم الحزبية.
ثلثا المجتمع الأردني، لم يعرفوا شيئاً عن توصيات ”اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية“، مع أنها تضمنت تغييرات نوعية على أهم قانونين ناظمين للعمل العام: قانون الأحزاب وقانون الانتخاب، وأدخلت تعديلات دستورية، جعلتنا أمام دستور جديد للبلاد، لا سيما بعد ”الإضافات الحكومية“ على مقترحات اللجنة المذكورة…قضايا تمس صميم مصالح الأردنيين وحقوقهم، ومع ذلك، ثمة غالبية وازنة لا تعيرها اهتماماً.
الانتخابات البرلمانية الأخيرة (2020)، والانتخابات المحلية التي تلتها (2022)، أظهرت “صلابة” موقف هذه الغالبية الكاسحة، أزيد من 70 بالمئة من الأردنيين لم يكلفوا أنفسهم عناء الذهاب إلى صناديق الاقتراع، لا سيما في المدن الكبرى، والدوائر ذات الغالبية السكانية من الأردنيين من أصول فلسطينية، ما حدا بوزير في الحكومة للقول بصورة تنطوي على قدر من ”الاستفزاز“ بأن أهل عمّان آثروا تمضية يوم عطلة الانتخابات للتنزه بدل التوجه إلى مراكز الاقتراع، من دون أن يكلف نفسه عناء المجازفة بشرح الظاهرة ووضع الإصبع على أسبابها، وتقديم تصورات حكومته لمواجهة تحدي العزوف المستفحل والمزمن هذا.
الأدهى من ذلك كله، أن النسب ذاتها ترد حين يُطرح السؤال حول درجة ثقة الأردنيين بعضهم ببعض، إذ تجد أن أكثر من ثلثيهم لا يثقون بغيرهم، بمن فيهم الجيران والأصدقاء… منسوب الثقة الاجتماعية في تردٍ، ورأس المال الاجتماعي يكاد ينفد، ولعلنا هنا نتحدث عن ”شرط قَبْلي مُسبق“ لأي عمل سياسي أو طني أو اجتماعي، بل وعن مقدمةٍ لا غنى لها لأي مشروع تنموي ونهضوي.
المؤسف حقاً، أن هذه الظاهرة، ظاهرة إدارة الظهر الجماعية للشأن العام، لا تزعج الحكومات المتعاقبة إلا عند الكشف عن النسبة النهائية للمقترعين في الانتخابات العامة… الحكومات ترغب في أن تجتاز النسبة حاجز الخمسين بالمئة، لإضفاء قدرٍ أعلى من “الشرعية” و”الجدية” على العملية السياسية، لكن المواطنين يردون بتسجيل نسبة لا تصل إلى الثلاثين بالمئة كما تكرر مؤخراً، ويُخشى أن يصبح “نمطاً”… وبخلاف ذلك، يبدو أن عزوف الناس عن المشاركة، لا يزعج أحداً من صنّاع القرار، بل قد يرى بعضهم فيه وسيلة لطلب “الراحة” والابتعاد عن “وجع الرأس”.
أخطر ما تواجهه الدول والمجتمعات، هو اتساع ”فجوة الثقة“ بين السلطات والمؤسسات من جهة، والرأي العام من جهة ثانية… و“فجوة الثقة“ شأنها شأن شفرتي المقص، كلما اتسعت المسافة بينهما، ازداد خطرهما.
ثمة أسباب عامّة، تشمل الأردنيين جميعاً على اختلاف مرجعياتهم ومشاربهم، وتفضي إلى تفاقم ظاهرة ”السلبية“ و“الشك“ و“انعدام الثقة واليقين“ و“الخوف من المستقبل“… لكن ثمة عوامل تخص فئات وشرائح محددة، كالأردنيين من أصول فلسطينية، الذين تقل نسب التصويت في دوائرهم عن 20 بالمئة عموماً، تحيلنا إلى بحث آخر في علاقة الدولة بمواطنيها، ومفهوم المواطنة وسيادة القانون وتكافؤ الفرص، وتستوجب بدورها، تركيزاً خاصاً، لتجفيفها وتعطيل مفاعيلها، حتى لا نظل ”نتلاوم“ كلما انتهى استحقاق انتخابي بنتائج مخيبة.
* عريب الرنتاوي كاتب صحفي أردني/فلسطيني
موضوعات تهمك: