تفرض الجغرافيا تغييراً بالأولويات ليصبح الأمن مقدما على كل أولويات سياسية واقتصادية وتنموية أخرى.
الجغرافيا ظالمة فعلا لكنها ليست مَظلمة مزمنة ومبكى سياسي فقد منحت في المقابل الجزائر أهمية استراتيجية كبلد مؤهل للعب دور محوري في المنطقة.
هذه الجغرافيا القلقة والمتحركة كلفة باهظة مرهِقة سياسياً لأنها متخمة بانقلابات وأزمات مستمرة وتغيرات غير مضمونة العواقب وتحد من بناء علاقات إقليمية مستقرة وتحرير المبادرات الاقتصادية.
* * *
بقلم: عثمان لحياني
في التقرير المفصل الذي نشرته وزارة الخارجية الأميركية عن مجمل الحوار الذي دار بين الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، ورد حديث تبون عن الجغرافيا الظالمة التي وضعت الجزائر بين مربع أضلاع متوتر وغير مستقر تماماً، وبيئة إقليمية ساخنة ومتقلبة لا تستقر على حال، مع أنه يصعب تقييم كيف أثّرت هذه الجغرافيا على واقع الجزائر الاقتصادي والسياسي.
في الحقيقة لم يكن بلينكن بحاجة إلى درس من هذا النوع. وجدت الجزائر نفسها، خصوصاً في الظرف الراهن، محاطة بدائرة من النار، بين دول هشة وضعيفة في الغالب، كالنيجر ومالي وموريتانيا جنوباً، وليبيا وتونس شرقاً، ونزاع في منطقة الصحراء نتجت عنه خصومة سياسية وتوترات مستمرة مع المغرب.
مثل هذه الجغرافيا القلقة والمتحركة هي في حد ذاتها كلفة باهظة الثمن، مرهِقة سياسياً لأنها متخمة بالانقلابات والأزمات المستمرة والتغيرات غير مضمونة العواقب، وتحد في الغالب من فرص بناء علاقات سياسية وإقليمية مستقرة وتحرير المبادرات الاقتصادية.
فهي تفرض تغييراً في الأولويات، ليصبح الأمن ومقتضيات الاستقرار مقدمة على كل أولويات سياسية واقتصادية وتنموية أخرى، وهو الحاصل فعلاً خلال السنوات الأخيرة.
وهذه الجغرافيا مكلفة مادياً لأن تأمين الحدود في هذه الحالة يستدعي جهداً مضاعفاً مادياً وبشرياً. ففي عام 2013 طلب رئيس الحكومة التونسية حينها مهدي جمعة من الجزائر المساعدة بإرسال تعزيزات بلغت 35 ألف جندي لدعم الأمن على الحدود بين البلدين بسبب نشاط المجموعات الإرهابية.
كما أنها جغرافيا معطِلة اقتصادياً، لأنها لا توفر سوقاً ولا تتيح مستوى من التبادل التجاري يعود بالفائدة على الجزائر، وتشجع في المقابل على التهريب والاستنزاف الاقتصادي، وهو ما يحدث مع الحالة الجزائرية تماماً.
وهي الجغرافيا التي لها تأثيرات تاريخية أيضاً، فقد ساهمت في تأخر استقلال الجزائر مقارنة مع دول الجوار، لأن القوى الاستعمارية فضّلت التخلي عن مالي والنيجر وموريتانيا وتونس والمغرب ومنحها استقلالها، لتتفرغ لإخماد ثورة الجزائر على أمل البقاء في هذا البلد.
الجغرافيا ظالمة فعلاً، لكنها لا يمكن أن تتحوّل إلى مظلمة مزمنة ومبكى سياسي، لأنها منحت بالمقابل الجزائر أهمية استراتيجية كبلد مؤهل للعب دور محوري في المنطقة.
فقد توفرت له من المقدرات ما تجعله قوة اقتصادية تؤهله لشراكة من موقع نفوذ مع باقي الشركاء الدوليين، وكان يمكن دائماً تحويل هذه الجغرافيا القلقة في حد ذاتها إلى عامل محفز لبناء دولة تؤثر بالأساس في راهن المنطقة أكثر مما تتأثر بمتغيراتها.
بالنسبة للجزائر، يمر ذلك أولاً عبر إعادة هندسة الداخل الاقتصادي والسياسي على الأسس السليمة ومقتضيات بيداغوجيا التطور وتحرير العقل الجزائري من قيود الخوف والتردد، ويكمن ثانياً في مراجعة الأدوات السياسية والاقتصادية للتعامل مع هذه الخريطة التي لا مفر منها، والانتقال من الهامش والتأثر بالجغرافيا السياسية إلى التأثير فيها عبر بناء الدور المركزي. وهذا الذي يجب أن يحدث.
* عثمان لحياني كاتب صحفي جزائري
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: