تتفق الصين مع روسيا في ضرورة إعادة تشكيل النظام العالمي لصالحهما.
خلال العقدين الأخيرين، أشارت وثائق الأمن القومي الأميركي إلى تصاعد مخاطر كبيرة من تهديدات الصين.
قد تحقق روسيا أهدافها من غزو أوكرانيا لكن يبقى نجاحها في العودة قطبا دوليا لاعبا ومؤثرا في الساحة العالمية هدفا بعيد المنال.
غزو أوكرانيا أول صدام كبير تعكس تداعياته إرهاصات نظام جيوستراتيجي تتطلع روسيا إلى أن يتطور لقطبية ثلاثية رغم ضعفها اقتصاديا مقارنة بالصين وأميركا.
واقع العالم أعقد مما تعكسه أزمة أوكرانيا التي ارتأت الصين ألا تلعب فيها دورا بارزا ويشهد العالم صراعا حاميا ومنافسة مستعرة لا بين روسيا وأميركا بل بين أميركا والصين.
رغم أن علاقات الصين وروسيا لا ترقى لتحالف رسمي فعداؤهما للرؤية الأميركية كفيل بتنسيق تحركاتهما الاستراتيجية لمواجهة “مزايا عسكرية أميركية أحادية على حساب أمن الآخرين”.
* * *
يستشرف خبراء ومحللون استراتيجيون عرب بعودة قوية للدور والنفوذ والقوة الروسية للساحة العالمية والمنطقة العربية، ويرون أن التحركات الروسية تقف ندا للنفوذ الأميركي.
يحلمون بعودة عصر سابق انتهى باختفاء الاتحاد السوفياتي، ولم يستطيعوا بعدُ التخلص من أفكار القرن 20 والنظر لمستقبل لا تلعب فيه روسيا دورا كبيرا. ووفرت أزمة أوكرانيا -ومن قبلها الحرب الأهلية في سوريا- ما يرونه بصيص أمل لهم في مواجهة السياسات الأميركية الظالمة.
إلا أن الواقع العالمي أكثر تعقيدا مما تعكسه أزمة أوكرانيا التي ارتأت الصين حتى الآن ألا تلعب فيها دورا بارزا. ويشهد الواقع العالمي المتغير صراعا حاميا ومنافسة مستعرة لا تحدث بين روسيا وأميركا، بل بين أميركا والصين.
روسيا دولة فقيرة متوسطة القوة، ومثلها مثل الدول الخليجية في اعتماد اقتصادها شبه الكامل على ما تجود به أراضيها من غاز طبيعي وبترول، إضافة لمواد خام أخرى. وإلى جانب موارد أراضيها، لا تملك روسيا إلا صناعاتها العسكرية بسبب إرث القاعدة الصناعية السوفياتية التي ورثتها وتصدر منها للعديد من أقاليم العالم الثالث.
ورغم ضخامة مصادر الطاقة والصناعات العسكرية، فإن روسيا لا تستطيع أن توجد ضمن قائمة الاقتصاديات الكبرى التي تتربع على قمتها الولايات المتحدة بناتج قومي إجمالي يقترب هذا العام من 23 تريليون دولار، ويليها الاقتصاد الصيني بما يقرب من 19 تريليون دولار طبقا لبيانات صندوق النقد الدولي.
في حين تلي أميركا والصين بفاصل واسع دول باعدت بينهما وبين روسيا التي تأتي في المركز الـ12، ويسبقها كل من اليابان وألمانيا وفرنسا والهند وبريطانيا وإيطاليا والبرازيل وكندا وكوريا الجنوبية.
ولا يتعدى الناتج الإجمالي لروسيا رقم 1.5 تريليون دولار، وهو رقم شديد التواضع مقارنة بالصين أو أميركا، وينتظر له أن ينخفض بمقدار 25% لهذا العام بسبب تداعيات غزو أوكرانيا والعقوبات الغربية.
ومنذ نهاية الحرب الباردة قبل 30 عاما، هيمنت واشنطن على الساحة الجيوستراتيجية العالمية، وامتد نفوذها السياسي والعسكري لكل بقاع العالم. ولم تتردد واشنطن في الدخول في مواجهات عسكرية ومهاجمة دول في البلقان، وغزو أخرى في الشرق الأوسط، دون أن تخشى ردة فعل أي من القوى الكبرى المنافسة ووسعت واشنطن حلف الناتو في اتجاه الشرق.
ومنذ وصول الرئيس شي جين بينغ للحكم في الصين قبل 10 سنوات، بدأت النخبة الأميركية الانتباه لتضخم قوة الصين التي لم تعد صناعية تجارية في جوهرها فحسب، بل امتدت وبقوة للجانبين العسكري والتكنولوجي.
وفور وصوله للحكم، بدأ جو بايدن في تشكيل شبكة تحالفات جديدة تحيط بالصين وتستهدف مواجهة قوتها الصاعدة في منطقة المحيطين الهندي والهادي، وتأسس على إثر ذلك تحالف “أوكوس” الثلاثي مع أستراليا وبريطانيا، وتحالف “كواد” الرباعي مع اليابان وأستراليا والهند.
وخلال العقدين الأخيرين، أشارت وثائق الأمن القومي الأميركي إلى تصاعد مخاطر كبيرة من تهديدات الصين، ووجود بعض المخاطر الأقل من جانب روسيا. ولم تشر وثيقة “التوجيه الإستراتيجي المؤقت لإستراتيجية الأمن القومي” -التي أصدرتها إدارة بايدن في مارس/آذار الماضي- إلى روسيا إلا مرتين كقوة منافسة تمثل تحديا للولايات المتحدة.
في حين ذكرت الوثيقة الصين 15 مرة كلها في إطار ضرورة التأهب لمواجهة تهديداتها، حيث أصبحت هي المنافس الوحيد القادر على الجمع بين القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية، وتحدي القدرات الأميركية.
ولكل ما سبق تقاربت بكين وموسكو في السنوات الأخيرة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى مخاوفهما المتشابهة من شبكة التحالفات العسكرية الأميركية قرب حدودهما المباشرة. وشهد فبراير الماضي توقيع الرئيسين الصيني والروسي بيانا في بكين وصفا فيه شراكتهما الوثيقة على نحو متزايد بأنها “بلا حدود”.
وتسببت العولمة التجارية والاعتماد المتبادل بين الدول في تعقيد التحالفات الدولية ذات الطبيعة العسكرية، ففي الوقت الذي تعد فيه روسيا موردا رئيسيا للطاقة لغرب أوروبا، تعد الصين الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة ولدول الاتحاد الأوروبي كذلك.
واستغلت روسيا تركيز واشنطن على مواجهة تهديدات صعود الصين، وقامت بما تراه لازما لإعادة تشكيل الترتيبات الأمنية لأوروبا.
وتتفق بكين مع موسكو في ضرورة إعادة تشكيل النظام العالمي لصالحهما، ورغم أن علاقاتهما لا ترقى إلى مستوى التحالف الرسمي، فإن مشاركتها العداء للرؤية الأميركية كفيل بتنسيق تحركاتهما الإستراتيجية لمواجهة ما يعتبرانه “مزايا عسكرية أميركية أحادية الجانب على حساب أمن الآخرين”.
من هنا يمثل غزو أوكرانيا أول صدام كبير يعكس في تداعياته إرهاصات نظام جيوستراتيجي تتطلع معه روسيا إلى أن يتطور لقطبية ثلاثية رغم ضعفها اقتصاديا وماليا بمعايير الصين وأميركا.
يترك هذا النظام الناشئ الولايات المتحدة تتنافس مع خصمين في وقت واحد في أجزاء متباينة جغرافيا من العالم. وتواجه إدارة بايدن الآن قرارات كبيرة بشأن ما إذا كانت ستعيد ترتيب أولوياتها، وتزيد من إنفاقها العسكري، وتطالب الحلفاء بالمساهمة بشكل أكبر، وتنشر قوات إضافية في الخارج، وتطور مصادر طاقة أكثر تنوعا لتقليل اعتماد أوروبا على موسكو.
قد تحقق روسيا أهدافها من غزو أوكرانيا، فتعلن كييف الحياد وعدم دخول حلف الناتو في المستقبل، إضافة لسيناريو خسارة أوكرانيا إقليم دونباس وإقرارها بخسارة شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014.
لكن يبقى النجاح الرئيسي لموسكو المتمثل في عودتها قطبا دوليا لاعبا ومؤثرا في الساحة العالمية هدفا بعيد المنال. فلا قدرات روسيا التكنولوجية والاقتصادية تسمح لها بمزاحمة الصين أو الولايات المتحدة في هذه الأصعدة.
ولا تخشى واشنطن أن تقدم موسكو نموذجا بديلا يحتذى به (على العكس من الحالة الصينية)، ولا تخشى واشنطن أن تزاحمها موسكو على سلم معايير التقدم الحديث، هي تخشى فقط وقوف روسيا إلى جانب الصين في الصراع الثنائي القادم، ناهيك أن تصبح روسيا ذاتها دولة مضطربة أو أن تسبب الاضطراب في الدول الأوربية المجاورة لها.
* محمد المِنشاوي كاتب في الشؤون الأميركية من واشنطن
المصدر: الجزيرة نت
موضوعات تهمك: