مغامرة التشكيل الــفنِّي في قصيدة هزار الشوق ” للشاعرة وردة أيوب عزيزي :.
ليس الفلاسفة أصحاب المنطق هم أهل المنطق والصّواب، بل خطَّأتهم الأحاسيس، وتمرّدت عنهم، ومنها كان الحبّ الذي تـمرّد عن المنطق ، وعن القوانين تـمرّدًا بيّنًا، وخرج حَمَلَةُ الأحاسيس (أقصد الشعراء ) ليمارسوا الحبّ وطقوس الحبّ باسم الإنسانية، وغلَّبُوا العاطفة على كل شيءٍ، ومن منبر الحبّ تسلل الشعراء ، ورفعُوا شعاراتهم عالية، كي يحققوا حياةً أساسها الحب للإنسانية .
حيث تجيء الشاعرة تنشد قانونًا عاطفيًّا لا ينطوي تحت أقدام المنطق، بل ينظر بعين العاطفة التي تمثّل إنسانية البشر ، حيث تذوب كل الحواجز، يبسط البوح جناحيه على أمداء العالم، يتساوى الأمر والنهي والدُّعاء والالتماس، وهكذا الشاعرة وردة أيوب عزيزي ؛ وهي تردّد في مطلع قصيدتها :
إنني أهواكَ طيرا كُن لأغصاني هَزارا
في دائرة الحبّ تهدأ الحياة وتنزل الطمأنينة ، ويفرش الأمن بساطَه، ‘ كن لأغصاني هزارًا’ هكذا يحلو للشاعرة أن تأمر، وتنهى ، وتدعو، وتلتمس ….، وتتكرّر مثل هذه المواقف في قولها :
:’ إبقَ شوقي إبقَ عِشقي، / ومتى شئتُ دَثارا..’
وتضيف في قولها أيضًا ‘ فاترك الظنّ وهَيَّا / بالهوى نحيا سكارى ….
وهنا تتحقق معادلة المعاني دائرة الدلالات بشكل الأمر والطلب معًا .وتنشر الشَّاعرة مشاهد قصيدتها ؛ مساحات من البوح العاطفي ‘ نكتوي نبضَ حنينٍ / ويَصِيرُ العشقُ نارا، هي أنفاس أنثى ، آهات ألم، وتألُّم تريد من خلالها توضيح حالات شعورية قد لا ترى بالعين، لكنها تترجم الإحساس بلغةٍ مشتهاة، لا توحي وفقط، بل تفصح بقولها ‘ وأنا يا حُبَّ قلبي / ظَلْتُ بُسْتانا وَدَارا ‘ ، تبدو الهمسات من جهة، ويبدو الحجاج من جهةٍ أخرى ،طبعًا لتذوِّب الآخر ، محاولةً إعادة تشكيله مرةً بعبق الحب، وطيبه .
قد استمتعتُ بهذا النّصّ / المقطع المطلع من قصيدة ‘ هزار الشوق للشاعرة وردة أيوب عزيزي، ولأنّها طبيعة الأنثى التي تكتب بالسليقة التي تحملها في ذاتها، لتبرز قصيدة مستثناة في المشهد الشّعريّ ، ومكتوية بإحساس لوعتي الحب والفقدان، فالحبّ لوعة من نوعها في عالم العواطف، تمارس ضغوطاتها بطريقة ما على قلب أنثى ضعيفٍ ومستضعفٍ ، طريٍّ ليّنٍ لا يتحمّل الصدمة ، وأما صدمة الفقدان هي أيضَا تمارس على علانية ، وتصبُّ مرارتها كأسًا كأسًا إلى قلب أنثى أصلا هو مطحون بلوعة الحب …
ـــــ تأليف العنوان :
يتشكل العنوان من لفظتين ( هزار )، لفظة محمّلة بالبهائية والغنائية والخفة / الطيران/ بينما لفظة (الشوق) محمَّلة بالعاطفة والأحاسيس ، ومنها نلاحظ أن القصيدة محمّلة بما يحمله العنوان، من البهائية ، الغنائية ، الخفة ، ومن العاطفة والأحاسيس كالشوق ، الوجد ، الأمل والحلم وغيرها …..، بمعنى أن اختيار تصميم العنوان لنص محمل بدلالته هو دلالة على قيمة السبك والتماسك ، ودلالة على طاقة فنية تتحكم فيها الشاعرة برزانة لاختيار تصميم العنوان .
ـــــ مطلع القصيدة / القصدية :
يبدو مطلع القصيدة دلاليًّا متشبّثًا بقصد بيِّنٍ ، ويبرز هذا من خلال التوكيد بحرف إنَّ، وبلفظة أهواك ، وقد تكرّرتا بشكل ينبئ برسالة الـحب الـمؤكَّدة بأداتين مختلفتين على التّوالي ( إن شبه الفعل، والجملة الفعلية أهواك )، هذه الصورة الـمؤكّدة التي وضعتها بين أيدي حبيبها، وبلغة بسيطة، وبإيقاع خفيف، وبغنائية منشودة ، وهي تردّد :
إنني أهواكَ طيــرا / كُن لأغــــصاني هَزارا
إنني أهواكَ شوقًا / فاجعلِ الشوقَ إوارا
ــــــ الموروث التاريخي في الحبّ :
تلتف الشاعرة إلى أعلام الحب ومعالمه، فبدأت بأقرب أهل العشق في تاريخنا فكان مشهد بلقيس ونزار القباني ؛ فتقول : إنني بلقيسُ كُن لي / في هوى الحُبِّ نِزَارا
إنها بلقيسُ التي أحبّها ، وأوفى، ثم رثاها نزار عندما اغتيلت في تفجير السفارة العراقية التي كانت فيها في بيروت ….، وتلتمس الشاعرة من حبيبها أن يكون في مستوى حبّ نزار ….فما معنى ذكر بلقيس ونزار الشاعر الكبير العاشق ؟؟ هنا تلتمس الوفاء من حبيبها وأن يكون عاشقًا وفيًّا مثله، لكنّها لم تتوقف عند هذا المعلم الغرامي المتفرّد، الذي كان عنوان حبّه في حياته كما تراه الشاعرة في قولها :
‘ فاترك الظنّ وهَيَّا / بالهوى نحيا سكارى’
ولم تكن على يقين ، فهزَّتها الشكوك إلى معلمٍ آخر، فهل ستجد الشاعرة حبيبها ، هذا الذي ترى فيه الـمثالية في شخصية ( كن حبيبي مثلَ قيسٍ) الذي ( قطع البيدَ القفاراَ ) ، ليحقق (ابن الملك) حلمه، ويمارس رغبته مع ليلاه ومدّةً ووفاءً ، هي لفتة أخرى إلى عاشق آخر ترك بصمته في تاريخ العشق العربي ، جمع الحبُّ شمل الأحبّة في فيافي بيداء االعربية، في ربوع عالم حالم بالمودة والصدق والصفاء .، ، لكن حبيب الشاعرة اليوم هل هو ذلك الذي يتجوّل من مدينة إلى مدينة بين العذارى اللواتي ( شَمتَتْ فيَّ العذارى ) ؟؟
وتعود الشاعرة إلى أسطورة الحب العربي عبلة / وعنترة ( العبد) بن شدّاد، لتستلهم من لوحته مشهدًا ثالثًا لتبليغ رسالتها للآخر ، وللمتلقّي، الترسم مشهدا آخر يختلف العبد عن ابن الملك وما هذه الشخصيات الثلاثة (بلقيس/ نزار )،( ليلى/ قبس)، (عبلة/ عنترة) إلا جزء من تأريخ الحبّ ، ومن شخصيات تاريخية مختلفة القيم والقامات، لأنها تردّد :
‘ وأنا (وردةُ) شَأني / مَلأ الأفْقَ انبِهَارا ‘
وكأنّها رابعة الثلاثة في تاريخ الحبّ العربي، وبهذه القصيدة ترسم مشهدًا آخر رابعًا في الشعر ، لا ريب ..فين رائحة الأنا التي لا تشبه السابقين إلا في الحبّ ، وتختلف عنهم في أشياء أخرى.
ــــــ الحالات النفسية والحبّ :
ترتيلة أخرى تغنّيها الشاعرة ، تحاول من خلالها توضيح الحالات النفسية، قد تكون فيها استراحة نفسية في ذات الشاعرة، وقد تكون فيها طمأنينة الآخر نم خلال إبلاغه بمثل هذه الصور التي تستند عليها في حديثها للآخر حتى يستأنس ، ويدرك حالتها الشعورية ، وهي تقول :
أنتَ بردي أنتَ غيمي / أنت من يطفي الجمارا
لا تـخــلـني يا حــبـــيبي / نــَجْــمــةً فــقدت مدارا
هكذا تحاول بعث بعض التنبيهات التي توقظ قلب الآخر في خضم دوائر ما زالت لم تهدأ أمواجها .
ـــــ العرف الاجتماعي في الحب :
ترتيلة أخرى تغنّيها الشاعرة ، تحاول من خلالها توضيح بعض الأمور ، التي تستند عليها؛ هي الأخرى في حديثها للآخر حتى يستأنس ، ويدرك حالتها الشعورية ، وهي تقول :
إنْ تَذَرْني يا حبيبي / شَـمَتَتْ فيَّ العذارى .
هي نوع من استظهار معالم الصور الاجتماعية، وهي محاولة للاقتراب من الآخر ، ومحاولة مقصودة لاستمالته .
ــــــ بـهاءية الطبيعة ، فاكهة الجسد :
وتهرب الشاعرة إلى الطبيعة وجمالها؛ حيث تفصح عن عمق حب، ولا تفضح في بوحها ، مستعملة أيقونات سيميائية ( الغصن/ الطير/ ……) ليصبح الجسد غصنًا ، والحبيب هزارًا ، ويجمع بينهما الحبّ والحنين، في مداراة العشق والشوق، وهي تردّد :
‘ إبقَ شوقي إبقَ عِشقي ‘ …..
ـــــ خفة الإيقاع / سرعة الإبلاغ :
القصيدة كتبت على بحر الرمل الـمجزوء ، فاعلاتن / فاعلاتن ( /0//0/
بقلم الناقد والشاعر :
عامر شارف ._ الجزائر